أستاذ محمد لطيف.. تحياتي.. وأستميحك عذراً في الإطلالة عبر مساحتك.. مواصلة لكلماتك الجريئة التي أطلقتها حول ما يمكن أن نسميه (توطين) قطاع الاتصالات.. رغم وعورة الطريق وخطورته. سنوات مرت تزيد عن العقد من الزمان والناس في ذهول ما استطاعت الإعلانات ولا المهرجانات الصاخبة ولا فتات ما يسمى بالدعم الاجتماعي أن تزيله أو حتى تغطي عليه.
ما يهم الشفافية السودانية في قطاع الاتصالات أنه أهم أركان قطاعات الأعمال في العالم، لذا تجده مضمنا في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي صادق عليها السودان مؤخراً، والاهتمام به ناتج عن أثره على الاقتصاد والتنمية المستدامة سلباً أو إيجاباً.
محلياً هو أكثر القطاعات تأثيرا على الفرد واقتصاد الدولة، إذ (يتعاطاه) يوميا وعلى مدار الساعة حوالي 30 مليون سوداني.
من هذا المنطلق التقت منظمة الشفافية السودانية الأسبوع الماضي اللجنة الاقتصادية، إحدى لجان الحوار الوطني بدعوة كريمة من أحد أعضائها طالبت فيه المنظمة بأن تتضمن مخرجات الحوار الاقتصادي التزام وإلزام قطاع الأعمال بمبادئ وأخلاق الأعمال وهو يمارس عمله داخل السودان، مع مراجعة الاتفاقيات المبرمة وإعادة ترتيبه ليصب في مصلحة الاقتصاد السوداني وعلى رأسه قطاع الاتصالات لخطورته المستمرة والمتعاظمة حتى لا يتعطل اقتصاد البلاد وتهتز قيمة عملتها، وما فشل وزارة المالية المتكرر في كبح جماح التضخم وتدني قيمة العملة الوطنية إلا لإهمالها لقطاع الاتصالات واكتفائها بما تفرضه عبره وتثقل به كاهل المواطن من قيمة مضافة.
أيلولة كنار لشركة أجنبية إن صح الخبر ليست وحدها المأساة، بل إن الأسوأ والأخطر الذي يفوق أضعافا كارثة بيع موبيتل، هو أن يتم التجديد لأي من شركات الاتصالات لرخصة الموبايل دون اتباع الإجراءات ووفق مبادئ وأخلاق الأعمال المتعارف عليها في الإعلان وتوسيع المشاركة بحثاً عن الأفضل ولضمان أن تأتي الاتفاقيات بما لا يضر بالاقتصاد الوطني أولاً ويحفظ حقوق المستثمر، إن تم ذلك فعلاً واتضح أنه أمر قضي فيه بليل، فإن الفاس تكون قد وقعت على رأس الاقتصاد السوداني وشطرته إلى نصفين!!
ولعلم القارئ الكريم فإن الاستحواذ على كنار لم يكن الهدف الرئيس بل كانت خطة إحدى شركات الاتصالات غير السودانية معتمدة على بعدها الإقليمي هو ابتلاع سوداتل بكامل بنياتها الأساسية، ولما لم يتحقق ذلك سعوا إلى إضعافها لتغادر سوق الاتصالات مرغمة عبر تجريدها من تقديم خدمة الهاتف الثابت التي تشاركها في تقديمها كنار بعد أن نجحوا في أن تتذيل سوداتل قائمة مشتركي الهاتف السيار بين الشركات الثلاث.
ظل قطاع الاتصالات في السودان قبل أن يتم تهريبه عبر الحدود بكلياته إلا قليلاً، ناجحاً ومتألقا محلياً وإقليميا ودولياً، وحاضرا في النهضة التنموية وكان من الممكن جدا أن يستمر من دون إضافة خارجية هدفها أن تضع يدها على كامل القطاع، فأرباح سوداتل عن العام 2014 لم تتجاوز الـ50 (خمسين) مليون دولار… وفي 2006/ 2005 قبيل بيع موبيتل قاربت أرباحها سبعمائة مليون دولار!! كما أن عدد مشتركي الهاتف الثابت في سوداتل في ذات العام 2006/ 2005 بلغ حوالي مليون وثلاثمائة ألف مشترك، ولا يتجاوز عددهم الآن خمسين ألف مشترك فقط!!.
سوداتل قبل بيع موبيتل كانت الأولى على مستوى العالم بنسبة مئة في المئة في استخدام التقنية الرقمية (ولا أمريكا) كما جعلت من السودان واحدا من أوائل الأقطار في أفريقيا والشرق الأوسط التي تقدم خدمة الهاتف السيار بعد إنشائها موبيتل.
لكن السودان فقد مواقعه المتميزة إقليميا ودوليا بعد دخول الشركات الأجنبية في ما يختص بأداء قطاع الاتصالات، مع الوضع في الاعتبار أن الزيادة في عدد المشتركين أو المستفيدين من القطاع على مستوى الحكومة أو المواطن أو مجال التنمية والاقتصاد كان من الممكن جداً أن تقوم به الشركة الوطنية سوداتل دون حاجة إلى شركة أخرى، ولعلم القارئ الكريم إن تدني أداء قطاع الاتصالات في السودان في الآونة الأخيرة ليس بسبب شح النقد الأجنبي أو المقاطعة المعلوماتية التقنية كما يدعي البعض.. لكن لأن الهدف لم يكن يوما ولم يعد مطلقاً جودة الخدمة أو تحقيق أهداف الدولة الاستراتيجية في الاستفادة من التقدم التقني داخليا أو موقع السودان خارجيا، بل كان الحصول وبأي طريقة على أكبر عائد من الأموال!!
لنرى ما الذي أضافته الشركات القادمة من وراء الحدود؟ في دراسة أعدتها جمعية المرشدين العرب للاتصالات حول معدل انتشار خدمات الاتصالات في العالم العربي ومن بين 17 دولة عربية جاء السودان في المرتبة الأخيرة، وفي مجال التنافس في تقديم خدمات الهاتف المحمول من 19 دولة عربية جاء السودان في الموقع الثاني عشر في العام 2014، وفي مجال تطور الحكومة الإلكترونية ومن 16 بلدا عربيا و193 بلدا على مستوى العالم، جاء السودان في المرتبة 15 عربيا و167 عالميا!!. أما نوعية الخدمة المقدمة للمواطن، فالقارئ الكريم المشترك أعلم بها، إضافة إلى مقاومة بعض تلك الشركات للمشروعات الحكومية.!!
نختم المقال بمعلومة مهمة وهي أن شركة اتصالات الإماراتية التي تتبع لها كنار قد دخلت إلى سوق الاتصالات السوداني آملة في رخصة للهاتف المحمول، ولعلم شركات الاتصالات الأخرى بقوة ومقدرة اتصالات التنافسية وإمكاناتها فقد تمت مقاومة ذلك، لتكتفي كنار برخصة الهاتف الثابت وتستحوذ على سوقه إلى حد كبير على حساب سوداتل، ثم لتنتظر ما يقارب العشر سنوات لتتقدم للمنافسة في حال الإعلان عن انتهاء أجل اتفاقيات الموبايل المقدر لها 2014.. 2015، فإن صح خبر التجديد لرخص الموبايل الثلاث دون إعلان لفترات تصل إلى العام 2029 تكون اتصالات الإماراتية قد فقدت الأمل في الحصول على رخصة للموبايل تماما لتقرر أنه من الأفضل لها أن تغادر سوق الاتصالات في السودان!! وإن صح خبر التجديد لرخص الموبايل دون إعلان تكون البلاد قد فقدت ـ كما قدر خبراء في مجال الاتصالات ـ 5 مليارات دولار كانت ستدخل دفعة واحدة الخزينة العامة، كما فقدت الفرصة في مراجعة الاتفاقيات الجائرة التي ظلت تستنزف بدلا من أن تستثمر!!
مع العلم أن العديد من أصحاب الضمائر الحية ظلوا يلحون ويطالبون خاصة وزارة المالية منذ سنوات عديدة بتدارك الأمر وقبل انتهاء أجل الاتفاقيات المبرمة مع الشركات لكن الممسكين بهذا الملف وضعوا أصابعهم في آذانهم ولشيء في نفوسهم أضاعوا على اقتصاد البلاد فرصة للإصلاح يصعب تعويضها!! فهل ستأتي مخرجات الحوار الاقتصادي بما عجزت عنه أو أغفلته الجهات المعنية جهلاً وربما عمدا!!؟؟
نأمل في ذلك.. ولنا عودة إن شاء الله إذا لزم الأمر…
د. الطيب مختار الطيب/ منظمة الشفافية السودانية/ الخرطوم 17/ نوفمبر 2015م