نعود إلى حوار (السوداني) مع القيادي الإخواني والنائب الأول للرئيس ونائبه ووزير الخارجية وأمين عام الحركة الإسلامية الأسبق، وعضو البرلمان الحالي علي عثمان. وهو حوار إذا ما سحبناها من طرفيه إلى مداه الأقصى لتمزق قطعة قطعة، ليس بسبب (قماشته) البالية فحسب؛ بل لأن كثيراً مما ورد فيه يبدو وكأنه محاولة لإنكار وقائع وحيثيات لم يمض على حدوثها وقت طويل، بل بعضها لا يزال جارياً لا يوقفه أحد.
وبسبب من ذلك، ربما، تُضاف إليه أسبابٌ كثيرة أخرى يصعب إحصاؤها في حيِّز كهذا، فإننا لم نرَ في ما قال (علي) إلاّ إصراراً على سوءِ التقدير (القديم) القائم على نظرية (الإنكار) مُرفقة بالترويج بأن البلاد عاشت أجمل أيامها في كنف الحركة الإسلامية، وكـأنه بذلك يظن أنه يتعامل مع (مُغيّبين) وفاقدي ذاكرة.
وعندما يقول: “في تقديري أن تجربة حكم الحركة الإسلامية في مجملها ناجحة، وأن حسناتها وإيجابياتها تفوق نقاط الضعف والتقصير والأخطاء”، ثم يلحق ذلك كله، بعبارة “وهذا لا يعني أن نبرر الأخطاء ونسترها”، يبدو وكأنه بهذه الجملة الإلحاقية، استدرك (خفة) إجابته وتسطحها، فأسرع لستر وإخفاء عيوبها بهذا الغطاء الأخلاقي النظري، ما أوقعه في تناقض كبير، كما هي عادة قادة الحركة الإسلامية السودانية عندما يحاولون تبرير فشلهم في إدارة البلاد على مدىً يقارب ثلاثة عقود استدُّوا سُدتها، ولا يزالون.
والحال أنّ خسراناً مبيناً ضرب البلاد خلال سِنيِّ حكم الحركة، من تقسيم للبلاد، أعقبه تبويب لما تبقى منها في (شرق وغرب وشمال) بنزعات وأحلام حكم ذاتي وانفصال (لاحق) للبعض، إلى تخريب حاق بالمؤسسات التعليمية جراء محاولة أدلجتها وبالتالي انتزاعها من مهمتها الرئيسة (إنتاج موارد بشرية) مؤهلة وقادرة على إدارة التنمية، إلى تفشي العنصرية بشكل مقزز وكريه، إلى تشظي الأحزاب وفساد المؤسسات العامة والمجتمع المدني، إلى كل شيء، فما الإيجابي الذي فعلته الحركة الإسلامية ويريد علي عثمان أن يخبر به الشعب السوداني؟ ولماذ لم يقل شيئاً بعينه، ولجأ إلى (التعميم)؟. ببساطة، ليست ثمة إيجابيات يمكن الاحتفاء بها إلى حد المفاخرة بها بين الأمم (المجاورة).
بطبيعة الحال، لا يمكنني المضيُّ من هذا (الحوار) على هذا النحو المتعجل، دون الإشارة إلى ذبول براري الجزيرة، وجفاف صمغ كردفان، وبوار سمسم القضارف، ونستورد كل شيء حتى الكهرباء، إنكار الحقائق لا ينفي حدوثها وتمويهها (لغوياً) يكرس للزيف ولا يخدم الحركة الإسلامية نفسها، إذ مثيلاتها بالنظر إلى تركيا وماليزيا وتونس تقدمن عليها كثيراً، بينما هي تراجعت حدود شهقات الموت.
وكما الحركة الإسلامية، لا يعيش علي عثمان أجمل أيامه، وكان له أن يعيش، بينما لو عاظل نزعات النفس وقاومها وقدّم مرافعة ومقاربة نقدية حقيقية لتجربة الحركة الإسلامية في الحكم، خاصة وأن وضعه الراهن يسمح له بذلك، وإلا فإنَّ ما قاله يشي بأنه يحلم بالعودة إلى دائرة الفعل مرة أخرى، وهذا لم يحدث في حركته من قبل، ولن يحدث.