حيدر ابراهيم علي : الإسلامويون السودانيون وزراعة العنف

NOVEMBER 8, 2015

صعقت الأوساط السودانية، في كل مناطق الوجود، بسبب حادثة تصدم الخلق السوداني والإسلامي والإنساني. فقد قبضت مجموعة من الشباب في قرية بمنطقة الجزيرة في وسط السودان، على لص منازل متلبسا بجريمته. وقررت المجموعة الحكم عليه بإدخال «شطّة» شديدة الحرارة من دُبره. فقد جُرد الشاب من ملابسه، وقام عدد من الشباب وإدخال «الشطّة» في مؤخرة اللص، وهو يتلوى، ثم أُغمي عليه، فأُدخل إلى المستشفى في حالة غيبوبة، وتوفي (رمضان) في اليوم الثاني، حسب بعض المصادر. وقامت الشرطة المحلية بالقاء القبض على 20 شخصا، ويخضعون الآن للتحقيق. ولم تكن هذه الحادثة فردية، فقد انتشرت ظاهرة ما يمكن تسميته «خصخصة تطبيق الشريعة» أي أن يقوم مواطنون عاديون بتطبيق ما يعتقدون أنه الشريعة. فقد ظهر في نفس اليوم، شريط فيديو يقوم فيه مواطنون مدنيون بجلد شاب في مكان عام. هذا وقد كانت الصدمة واضحة على السودانيين، وقد تجلى ذلك في كيفية التعامل إعلاميا مع الحدث المخجل. فقد ظهر الارتباك والحيرة لدى النظام والمجتمع عامة. إذ رأى الكثيرون ضرورة التعتيم على الخبر وإهماله تماما، وعدم مناقشته وتناوله في وسائل الإعلام المتاحة. ولكن البعض وجد في الحدث دليلا سلبيا على سياسات النظام على الأخلاق والسلوك في البلاد، وشرع في شن حملة لتعرية النظام. ولكن الاتجاه العام بين جميع السودانيين هو «السُتر» حسب التعبير السوداني.
يستند كل طرف في السودان على أسباب خاصة وقوية تفرض عليه سلوك التهرب من تداعيات الحدث على الحياة العامة. فالنظام بادعاءاته الإسلاموية، وتبنيه ما أسماه بـ «المشروع الحضاري الإسلامي» وكان من أهم غاياته المعلنة: «إعادة صياغة الأنسان السوداني». ولكن النظام بعد أكثر من ربع قرن من السلطة المطلقة، صار يُصنّف بانتظام في مقدمة الدول الفاشلة. هذا لو أكتفينا فقط بتعريف الدولة الفاشلة بأنها: «تلك الدول التي تعجز عن السيطرة على كامل ترابها الوطني». فالنظام فرّط في جنوب السودان، وتنازعه الحركات المسلحة السيطرة على مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور. كما إن إنقسام الحركة الإسلامية في نهاية عام 1999 إلى مؤتمر وطني وآخر شعبي، كشف عن إنقسام عميق في فهم ما المقصود بالمشروع الحضاري الإسلامي؟ وأقر النظام بوجود الكثير من الأخطاء والإنحرافات، ولكنه لم يبادر بإصلاحها لأن ذلك سوف يهدد وجود النظام. ففتح ملف الفساد مثلا، سيعني الإطاحة بكثير من كوادره وقياداته. وقد ظهر إسلامويون ناقدون يعبرون عن خشيتهم عن أن يتحول نظام دولة المشروع الحضاري إلى جمهورية العنف والفساد إسوة بجمهوريات الموز. وهذا قد يفسر كيف تهرب النظام عن تناول قضية (رمضان) والشطّة، المخزية. فقد تجنب إعلام النظام ذكر الموضوع في الصحف الرسمية والقنوات الفضائية الموجهة. لم يمنع هذا التجاهل والتعتيم الرسمي، مضافا له كل تيارات وجماعات الإسلامويين السودانيين؛ من توجيه التهمة لتجربة الإسلام السياسي في حكم البلاد، وتحميلها مسؤولية هذا التدهور المريع في الأخلاق والقيم. فهناك الكثيرون من الإسلامويين، حتى من بين المتحفظين على النظام، ولكنهم يخشون من سقوط التجربة لأنها في النهاية إسلامية مهما كانت العيوب. ولذلك فضّل جميع الإسلامويين التعتيم،والصمت المريب.
يُتهم النظام والحركة الإسلامويين بأنهم ساعدوا في نشر ثقافة العنف وعدم التسامح خلال فترة حكمهم الممتدة منذ منتصف عام 1989. ويرى البعض إن هذه الفترة كافية لإعادة صياغة إنسان من جديد، خاصة لو كان يرتكز على ثقافة غير عميقة الجذور، وغير مساعدة على الإنتماء القومي، كما هو الحال في السودان. يضاف إلى ذلك، إعلام مزًّيف للوعى مع نظام تعليم يهدف للتجهيل والتدجين. وفوق ذلك، أجهزة أمنية مطلقة اليد للقمع وإرهاب المواطنين، أو ما عُرف بالأمنوقراطية الحاكمة فعليا بسبب غياب تنظيم سياسي فعّال، وإنتهاك حكم دولة القانون، وغياب خدمة مدنية مستقلة ونزيهة. وبالإضافة لهذه الآليات في تعميم تربية وثقافة العنف، كانت حرب الجنوب فرصة للتطبيق العملي لممارسة العنف. ففي خلال تلك الفترة المبكرة من تاريخ الصراع، أعلن النظام الإسلاموي « الحهاد المقدس» محولة الحرب الأهلية إلى حرب دينية. وكان يتم اصطياد الشباب والطلاب بالقوة من الشوارع والجامعات والمنازل، ويشحنون بلا تدريب للحرب في الجنوب. يُعتبر إدخال النظام الإسلاموي لممارسة التعذيب في الحياة السياسية السودانية من خلال بيوت الأشباح ووسائل التحقيق العنيفة، من أخطر اجتهادات المشروع الإسلاموي. فالسودانيون لم يعرفوا ممارسة التعذيب ولا حتى في العهد الاستعماري، ولا في الدكتاتوريات العسكرية السابقة: (عبود 1958 – 1964) أو (النميري 1969 – 1985). وأنفرد النظام الإسلاموي بسبق هذا الاجتهاد في التعامل مع الخصوم. وقد ساهم تجديدهم في رفد الشارع السوداني بعدد كبير من أفراد أجهزة الأمن الذين صار العنف جزءا طبيعيا في شخصياتهم وانعكس على تعاملهم اليومي وسلوكهم العادي.
المتابع للقنوات الفضائية السودانية في الفترة الأخيرة، يلاحظ بعثا مكثفا لما يسمى بـ :»أغاني الحماسة». وهو تراث شعبي شعري مُغنى، إزدهر زمان الحروب القبلية في البوادي، يمجد القتال لرفع الروح المعنوية لأفراد القبيلة. ويشيد بدموية أبطال القبيلة، واصفة إياهم بالقسوة والعنف والذكورية الفائضة.
ينحسر تدريجيا وجود الإنسان السوداني المتسامح، الدمث، المجامل، مفسحا المجال لإنسان آخر عنيف، شرير، باحث عن أسوأ أنواع القسوة والوحشية تجاه مواطنيه، مُعطلا عقله عن البحث في الجمال والحرية والحكمة. وأخشى أن تكون الدولة الفاشلة قد نجحت في خلق مجتمع فاشل أيضا يشبهها ويساعد في بقائها، واستدامة نظام يقمعه وهو راض أو لاه عنه لا يقاومه. وهنا يتماهى الضحية مع جلاده، ويتعايش معه باستمتاع، لتنطبق- بامتياز- متلازمة (استوكهولم) المعروفة في التعامل مع العدو- الجلاد، والذي يجد «الرضا» أو الصمت.
٭ كاتب سوداني
حيدر ابراهيم علي

Exit mobile version