قبل سنوات استقبلت الخرطوم بترحاب شديد مستثمراً أجنبياً من أصول سودانية.. سر تميز هذا الرجل أنه يستثمر في الأزمات الوطنية.. ما أن تناهى إلى مسامعه بوادر أزمة بين السودان والمحكمة الجنائية حتى أعدّ دراسة جدوى سريعة.. هبط الرجل الخرطوم ليقنع حكومتنا أن حل الأزمة في مليون توقيع يحتاجها مكتب قانوني في لندن.. بالفعل هرعت جهات موالية للحكومة، وتحت إشراف المستثمر، في جمع التوقيعات.. بعد أن نال الرجل من الطيب كل النصيب ذهب إلى الولايات بمشاريع مشابهة تدر أموالاً.. بالطبع لم تغادر الكشوفات المليونية إلى العاصمة البريطانية لأن المستثمر الشاطر استكثر دفع تكلفة البريد.
عادت بي الذاكرة لتلك الواقعة التي لم يحقق فيها المراجع العام، حينما قرأت أمس في الزميلة السوداني أن منظمة أخرى قدمت مقترحاً بجمع أربعة ملايين توقيع .. صاحبة الفكرة هذه المرة اسمها سارة جاد الله التي تدير منظمة «متطوعون الشبابية».
«بت جادالله» قالت إنها ومائة منظمة طوعية سيقومون بتصميم علم السودان بطول «2016» متر.. ثم يجمعون توقيعات أربعة ملايين سوداني.. هدف حملة «بت جادالله» رفع العقوبات الأمريكية عن السودان وذلك عبر تحقيق رقم قياسي يسجل في قائمة غينس.
طبعاً السيناريو يبدأ بمؤتمر صحفي ثم تكوين لجنة قومية لمشروع التوقيعات.. بعدها سيتم طباعة تصور في أوراق مصقولة يُبين فوائد المشروع الوطني.. رائدة المشروع ستسافر للصين لشراء قماش طوله اثنين كيلو متر.. بعدها سيتم تدشين المشروع بحضور مساعد رئيس الجمهورية الذي يبتدر التوقيعات على ثوب الصين العظيم.. بعدها ستتدفق التبرعات.. بعد شهرين سينسى الجميع مشروع التوقيعات.
ربما بعضكم يظن خيراً في حكومتنا ويقول إنها لا تصدق هذا الهراء.. قبل أشهر كانت السلطات تحقق مع مسؤول حكومي فقد أمواله، بعد أن صدق أن بعض الشيوخ يمكنهم تنزيل دولارات خضراء من السماء.. وقبلها كانت حكومتنا تنشد المدد من شيخ طريقة لتحسين العلاقة مع دولة شقيقة.. ألم تصدق حكومتنا مولانا الحسن الميرغني الذي أكد أنه سيحل مشكلات البلد في «181» يوماً.. لهذا ربما يجد مشروع بت جادالله تمويلاً من جيوب دافع الضريبة.
في تقديري.. أن بإمكان المجتمع أن يساهم في حل قضايا البلد.. ليس بالأفكار الفطيرة ولا الخيال الواسع.. المنظمة التي تستطيع أن تقنع أربعة ملايين مواطن، عليها أن تمضي في الاتجاه المعاكس لإقناع حكومتنا ببذل التنازلات التي تخرجها من العزلة الدولية.. على هؤلاء الشباب أن يخرجوا في الشوارع للضغط على صناع الحرب في أطراف السودان ويقولوا إن العنف لا يعبر عن السودانيين.
في تقديري.. أن خروج السودان من القوائم المسيئة ليس عملاً مستحيلاً.. خرجت كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب.. ومن قبلها إيران والعراق وأفغانستان وليبيا.. لم يعد بجانبنا إلا سوريا التي يحارب رئيسها كل الشعب.. وكوريا الشمالية التي تعيش في ظلام الشمولية.. هذا الجوار في التصنيف يجعلنا نشعر بالقلق ونطالب حكومتنا أن تسعى بكل جهدها للخروج من هذه المجموعة التي لم تضم الصومال التي تعيش في فراغ سياسي منذ أكثر من ربع قرن.
بصراحة.. حينما نخطئ التشخيص السليم للمشكلات نلتمس العلاج في آراء فطيرة تتقدم بها شخصيات مجهولة.