العبارة المأثورة التي يتسلل منها غول الفساد والإفساد هي ما يرد في عجز الإعلانات الحكومية عن عطاءات لتشييد مبانٍ أو توريد احتياجات مكتبية.. العبارة تقول “السيد المدير غير مقيد بأعلى أو أدنى عطاء”، أي أن المدير “على كيفو”.. لكن في العصر الحديث ما عاد المدير “على كيفو” يقبل أدنى أو أعلى عطاء لأن هناك معايير أخرى لقبول العطاءات مثل جودة السلعة والكفاءة الفنية والخبرات التراكمية قد ترغم المدير على قبول العطاء الأعلى مثلاً، إذا كانت هنالك شركة يابانية وشركة تايوانية بالطبع سمعة اليابان غير سمعة تايوان أو الصين في مجالات الصناعات المختلفة، وحكومتنا منذ سنوات تدعي أن عصر التمييز الإيجابي لصالح المحسوبين عليها قد انتهى وأصبحت الكفاءة هي المعيار الوحيد للقبول في الوظيفة العامة.. والتنافس الشريف وحده هو الطريق المفضي لنيل الحقوق.. وقد ضرب وزير المالية “بدر الدين محمود” مثلاً في الشفافية وهو يفتح سوق الدقيق واستيراد القمح لكل الشركات ويلغي الامتيازات التي كانت (تخصص) لـ”أسامة داوود” وشركاته و”جمال الوالي” واستثماراته في دقيق الخبز الحاف.
في الأسبوع الماضي نشرت صحيفة (المجهر) وفي صفحتها الأولى خبراً مثيراً عن هضم جامعة الجزيرة لحقوق شركة خاصة تقدمت لعطاء خاص بتكييف مستشفى السرطان بود مدني.. لكن شفافية وزير مالية السودان لم تبلغ مدينة ود مدني بعد، ربما تصل هذا الأسبوع إلى الكاملين أو الحصاحيصا، لكن حدث شيء مفجع ومؤلم كما جاء في صدر الصفحة الأولى بـ(المجهر) وشركة (أوتورايدر) الوكيل الحصري لمنتجات ميتسوبيشي اليابانية للتكييف والتبريد تتقدم بأقل سعر من كل الشركات الأخرى ولا جدال مطلقاً في كفاءة منتجات ميتسوبيشي، حتى يذهب العطاء لشركة أخرى.. وفارق السعر يصل لـ(2) مليار بالقديم، أي اثنين مليون جنيه بالجديد الشيء الذي وضع هذه الشركة أخلاقياً وقانونياً في مقدمة الشركات.. كان على جامعة الجزيرة أن تتحرى الصدق في نفسها وحسن استغلال الموارد، وتجنباً لروائح الفساد المالي والإداري وسداً للذرائع، وحتى لا يخدش سلوك موظفين صغار سمعة مؤسسة تعليمية عريقة مثل جامعة الجزيرة ويجعلها مكان شبهة وهي تختار عطاء يزيد عن آخر بمبلغ (2) مليار جنيه.
الشيء الذي يثير الريبة والشكوك أن المتنافسين جميعاً من شركات القطاع الخاص والعام في عطاء جامعة الجزيرة قد فوجئوا بأن الخرط الخاصة بالمشروع قد وزعت وعليها شعار إحدى الشركات المنافسة، وحتى في نهاية الأمر قد تمت (ترسية) العطاء لها رغم أسعارها العالية وتدني كفاءتها الفنية وقدراتها مقارنة بالآخرين، بل (الأدهى) أن مندوبة الشركة التي فازت بالعطاء أو تمت ترسية العطاء عليها جهراً وعلناً، عملاً بالمقولة المقدسة التي بدأنا بها المقال، “إن المدير العام غير مقيد بقبول أعلى أو أدنى عطاء”، تحدثت المندوبة جهراً وعلناً وهي تمشي في خيلاء السلطة ووجود الظهر الذي يحمي القوى ويقهر الضعيف بأن عطاء المكيفات لن يذهب لشركة (ميتسوبيشي) مهما كان الأمر.. وهي ذات النتيجة التي وصلت إليها جامعة الجزيرة من خلال موظفيها.
لماذا سيدي وزير المالية.. الشفافية في الدقيق والقمح و(أم غمتي) في عطاءات الحكومة الأخرى؟ ولماذا لا تتولى وزارة المالية الاتحادية جميع عطاءات الدولة وتنشئ إدارة مختصة باحتياجات الوزارات والولايات بدلاً عن ترك الأبواب مفتوحة للموظفين ليفسدوا ويمارسوا مثل هذا السلوك الذي يهزم سياسات دولة المواطنة، ويعيد مظاهر سنوات التمكين حينما كانت الحكومة تمارس التمييز بين مواطن وآخر، وشركة وأخرى؟!