* لا أعرف حتى هذه اللحظة أسباب منعي من الكتابة بالصحف السودانية خمس مرات في غضون ثلاث سنوات فقط، كانت آخرهن (وهي بالتأكيد لن تكون الأخيرة ما دامت الأوضاع باقية على ما هي عليه) قبل حوالي عام ونصف عندما اتصل أحد ضباط جهاز الأمن عبر جهاز الهاتف السيار (كالعادة) برئيس تحرير صحيفتنا السابق الأخ إدريس الدومة الذي هاجر لاحقاً الى بريطانيا، ونقل إليه توجيهات السلطة بمنعي من الكتابة إلى أجل غير مسمى، وذلك بعد مصادرة عدد الصحيفة من المطبعة في فجر نفس اليوم الذي منعت فيه من الكتابة وكالعادة لم يجب ضابط الأمن على سؤال رئيس التحرير عن سبب قرار المنع أو الإيقاف، وذلك كغيره من أسباب (الإيقافات) السابقة التي ظلت جميعها مجهولة حتى هذه اللحظة!!
* أذكر أنني التقيت بعدها ببضعة أشهر بأستاذنا الجليل البروفسير علي شمو رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات السابق لأشتكي إليه وتحدثت عن عدم معرفتي للتهمة الموجهة لي أو سبب الإيقاف، فكان تعليقه أن المجلس نفسه لا يعرف السبب.!!
* ولم يكن الإخوة في اتحاد الصحفيين السودانيين أفضل حالاً، فقد ظلوا يرددون على الدوام أنهم لا يعرفون شيئاً عن هذه الإيقافات، ولا أسبابها، رغم احتكاكهم اليومي، على المستوى المهني والشخصي، بمعظم المسؤولين في الدولة وعلى أرفع المستويات!!
* باختصار شديد.. لم يكن هنالك وليس هنالك من يعرف الأسباب، إلا صاحب القرار نفسه (الذي ليس بالضرورة أن يكون جهاز الأمن).. تخيلوا كل هذا الظلم والضيم وفي دولة تزعم أنها تطبق شرع الله، فهل يعقل أن يعاقب شخص بدون أن يعرف أسباب أو حيثيات عقابه، ولكن ما الغريب في ذلك فهذا هو السودان الذي نعيش فيه اليوم!!
* ولكن هنالك سودان آخر.. فالقرار لم يمر مرور الكرام، بل واجه مقاومة كبيرة من العديد من الأشخاص والجهات على رأسها هذه الصحيفة المحترمة وكل طاقمها الجميل ابتداءً من مديرها العام عوض محمد عوض ورئيس تحريرها السابق إدريس الدومة والحالي أشرف عبدالعزيز حتى أصغر محرريها الذين نظموا وبدون وجل أو خوف العديد من الوقفات الاحتجاجية التي رفعوا فيها الشعارات المنددة بكل شجاعة ومسؤولية بانتهاك الحريات وكتبوا العديد من المذكرات الاحتجاجية للمسؤولين، ونشروها على كل الوسائط المتاحة، بالإضافة إلى النشر بالصحيفة، ووجدوا السند والدعم بالكتابة والنقد وبغيرهما من الوسائل من كبار الأساتذة في مجال الصحافة أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر صديقي وأستاذي الجليل محجوب عروة، والصحفي المخضرم الأستاذ محمد عجيب صاحب الثمانين عاماً، بل أكثر والذي ذهب أكثر من مرة على رجليه المجهدتين العليلتين الى مقر جهاز الأمن ليحتج على إيقافي، ولعله سعيد الآن رغم حريته المقيدة على سرير المرض (شفاه الله وعافاه)، بإلغاء قرار الإيقاف الجائر.
* منهم أيضاً الأساتذة الأجلاء مصطفى أبو العزائم، الطاهر ساتي، مكي المغربي، عبدالماجد عبدالحميد، صلاح عووضة، مشاعر عثمان، يوسف عبدالمنان، عثمان شبونة، محمد الفاتح، رحاب طه، حيدر المكاشفي، طه مدثر، والإخوة والأخوات في مجلس الصحافة واتحاد الصحفيين، وشبكة الصحفيين وجهر والراكوبة وسودانايل وسودانيزأونلاين وبقية الوسائط الإلكترونية وكُتابهم وقراؤهم وروادهم الذين شكلوا بكتاباتهم الصادقة وكلماتهم الناقدة عامل ضغط على أصحاب القرار لرفع الظلم عني، وأسهموا في إبقاء معنوياتي مرتفعة وصمودي راسخاً لا يتزعزع، فلهم كل الاعتزاز والتقدير.
* وفي مجال القانون لا بد أن أذكر مساهمات أساتذة القانون والمحاماة لرفع الضرر عني والدفاع عن حقوقي ومنهم على سبيل المثال في أوقات سابقة مأمون شمينا وأبيل ألير وعلي قيلوب وكمال الجزولي وعبدالله موسى والمرحوم محمد أحمد بكري، وعلى المدى القريب نبيل أديب وساطع الحاج، الذين ظلوا يوفرون الملاذ القانوني الآمن الذي ألجأ إليه وأحتمي به بدون أن يطلب مني أحد أتعاباً على ذلك.
* وأخيرا أسرتي الكبيرة وعلى رأسها المرحوم أبي محمد علي السراج وأمي، وأسرتي الصغيرة التي تكبدت الكثير من المشاق بسبب إصراري على الكتابة… ثم يبقى هذا الشعب البطل الذي سأظل أستمد منه القوة والشجاعة وأتعلم منه الصمود والصبر الى يوم تقوم الساعة ويؤول كل شئ إلى خالق الوجود الذي منه أتينا وإليه نعود!!
الجريدة