في الليلة السابقة لم ينم المهندس..لم يستوعب فكرة انقسام الإسلاميين في السودان.. فكر الرجل الذي يتحرك خلف الكواليس في أن يفعل شيئاً يمنع ارتطام البشير والترابي في حادثة المفاصلة.. في غرفة بعيدة وجيدة التكييف بضاحية كافوري تم إعداد المسرح بكافة المؤثرات العاطفية..صور الشهداء تناثرت بشكل مرتب بحيث حينما يجلس الترابي يجد شقيقه عبدالخالق يقف وراء الكرسي الذي يجلس عليه البشير.. فيما يؤمن الشهيد عثمان البشير ظهر الترابي.. يدخل البشير أولاً الغرفة ثم يشعر بقشعريرة.. جاء الترابي بواقعيته المعهودة ثم دار حوار كثيف بين القصر والمنشية.. تلك الجلسة لم تحقق الصفاء ولكنها منعت الارتطام بين الشعبي والوطني.
أمس نشرت الزميلة اليوم التالي رؤية المؤتمر الشعبي التي قدمها لمداولات الحوار الوطني.. أهم ما في الرؤية أنها نتاج بحث وتنقيب وقراءة جيدة لمآلات الأحداث.. رؤية الشعبي تقوم على حكومة انتقالية تحكم مع بداية العام الجديد ويرأسها المشير البشير..الحكومة الانتقالية تحوي منصب رئيس وزراء متفق عليه ويكون لمجلس وزرائها سلطات تنفيذية.. هذا يعني أن يكون الرئيس البشير رئيسياً رمزياً خلال فترة الانتقال.. تواصل المؤسسات التشريعية الحالية عملها في تقنين مخرجات الحوار.. بعد نهاية الفترة الانتقالية تجرى انتخابات عامة يحظر من خوضها شاغلي المناصب الدستورية والتشريعية في مؤسسات الإنقاذ، وذلك لتحييد آلية الدولة.. الجمعية التأسيسية المنتخبة تتولى إجازة دستور دائم للبلاد وتكون الرئاسة دورية في مجلس سيادة يراعي التنوع في السودان.
في تقديري أن المؤتمر الشعبي نثر كنانته ورمانا بأصلب سهامها.. أغلب الظن أن مفردات رؤية الشعبي لن تشكل مفاجأة للحزب الحاكم.. بل ربما اطلع عليها الرئيس البشير خلال الجلسات السرية التي جمعته مع الشيخ الترابي قبيل انطلاق الحوار.. ترتكز الرؤية الشعبية على الانسحاب المتدرج أو الانسحاب المنظم بلغة العسكريين.. تفترض هذه الرؤية أن مقاليد الأمر في الحزب الحاكم بين يدي المشير البشير، وهو زعم صحيح لكنه غير دقيق.. لهذا تكافيء البشير برئاسة رمزية ثم تجرد الفاعلين الآخرين من سلطان الدولة عبر العزل السياسي المؤقت، إن صح تلخيص الزميلة اليوم التالي.
ربما هذه المعادلة السياسية تكون مرضية للرئيس البشير ..إذ تمنحه فترة رئاسية جديدة بتراضي كل الفرقاء..لكن أغلب الظن أن الرئيس البشير لن يقبل بفترة قصيرة على رئاسة السلطة الانتقالية التي اتفقت المعارضة في قوى الإجماع أن تكون نحو «03» شهراً..لهذا أغلب الظن أن البشير سيمدد أجل الحكومة الانتقالية ليقارب نهاية دورته التي من المفترض أن تمتد للعام «0202».. هذه المعادلة تحقق مكاسب للرئيس البشير حيث يجد نفسه محاطاً بحركة إسلامية موحدة تستطيع أن توفر له السند والحماية إن احتاج لذلك.
لكن في أغلب التقديرات أن هذه التسوية المقترحة لن تجد التأييد من الحرس القديم أو الجديد المتنفذ في المؤتمر الوطني.. هؤلاء لن يقبلوا الرحيل المجاني ولو كان يقود «البص» الشيخ حسن الترابي شخصياً.. هؤلاء يشكلون دولة عميقة وراسخة ولها مصالحها ومكاسبها التي يكون دونها خرط القتاد.. ستحاول هذه المجموعات التوحد ضد التصفية الاختيارية للإنقاذ.. لن يكون بوسع الرئيس البشير إغضاب هذه المجموعة التي تقاتل داخل صندوق الإنقاذ.. لهذا سيحاول استمالتها أو الرضوخ لمطالبها.
بصراحة.. إن نجح الشيخ في الهبوط بسلام بطائرة الإنقاذ ربما يسجل رقماً قياسياً جديداً.. سيوسم الترابي بأنه ساهم في صنع ثورة في أكتوبر 4691.. ثم كان عراباً لانقلاب عسكري أطاح بالديمقراطية بعيد ربع قرن من الهبة الشعبية في أكتوبر.. ثم بعد ربع قرن آخر تمكن الترابي من تفكيك الانقلاب سلماً.