* كتبنا قبل يومين عن مشروع قانون النيابة العامة، الذي سيفصل النيابة عن وزارة العدل للمرة الأولى في تاريخ السودان.
* يُرجى للمشروع المذكور أن يشكل مدخلاً لتنفيذ ثورة إصلاح شاملة لملف العدالة في السودان، تبدأ بتفعيل مبدأ سيادة حكم القانون، في ما يتعلق بجرائم الحق العام، قبل الخاص.
* الثابت أن السلطة القضائية أفلحت في صيانة الحقوق الخاصة بالمواطنين، ووفرت العدالة لكل من يلجأ إليها متظلماً في قضايا الحق الخاص، بتقسيم المتخاصمين إلى (متهمٍ وشاكٍ) في القضايا الجنائية، و(مُدَّعٍ ومُدَّعى عليه) في القضايا ذات الطابع المدني.
* تبدأ المخاصمة بمحكمة الموضوع، التي يشرف عليها قاضٍ واحد، يُعمل حصافته وخبراته وكل قدراته ومؤهلاته القانونية لإصدار حكمٍ عادل، يقبل الطعن إلى محكمة الاستئناف، ومنها إلى المحكمة العليا، ثم المراجعة (استثناءً)، إذا رأى الطرف المتضرر أن الحكم تجاوز نصوص الشريعة الإسلامية، على اعتبار أن مخالفة القانون تمثل مخالفةً لأحكام الشريعة، وذلك يحدث في حالات نادرة، يكتسب بعدها الحكم صفة النهائية.
* لا توجد مشكلة في قضايا الحق الخاص بالسودان.
* المشكلة كلها تكمن في قضايا الحق العام، التي تبدو مثل اليتيم في كثير من الأحيان.
* قبل إقرار قانون الإجراءات الجنائية للعام 1991، كان القضاة يشرفون على التحري بأنفسهم، لذلك كان أي بلاغ يُرفع في قضية حق عام (مثل الاختلاس واستغلال النفوذ وغيرهما) يأخذ طريقه إلى المحاكم بلا إبطاء.
* كان أي تقرير للمراجع العام يتضمن اتهاماً لموظف عام بتجاوز القانون يحال إلى المحكمة مباشرةً، ولم تكن الوحدات التي يتبع لها المتهمون تجرؤ على التدخل لحماية منسوبيها مطلقاً، لأن ذلك كان يعرضها هي نفسها للمساءلة.
* عندما أجيز قانون 1991 تم تحويل تلك السلطة إلى النيابة، لتشرف على التحري، وفتح ذلك الأمر باباً واسعاً لحفظ العديد من ملفات الفساد، قبل أن تبلغ ردهات المحاكم، لأن وزارة العدل تتبع للجهاز التنفيذي، وتقع تحت دائرة نفوذه وتأثيره، وهنا حدث الخلل الذي سمح للفساد بأن يستشري، وحول المال العام إلى فريسة سهلة للفاسدين وضعاف النفوس.
* مع إجازة قانون الثراء الحرام ظهر ما يسمى (فقه التحلل والسترة)، ففتح باباً أكبر للفساد، لأن السلطة التنفيذية تفننت في استغلال تلك النصوص لإعفاء الفاسدين من المحاسبة.
* أثار الإعلام عشرات القضايا الخاصة بالفساد، فقُبر معظمها في طور التحري، باستثناء قضايا قليلة (مثل قضيتي الأقطان وسودانير وغيرهما)، وراحت البقية شمار في مرقة.
* اغتيلت معظم قضايا الفساد في مهدها، ودُفنت قبل أن تصل المحاكم، مثلما حدث في قضية مكتب والي الخرطوم، التي وئدت بفقه التحلل على رؤوس الأشهاد.
* المساعي التي يقودها مولانا عوض حسين النور، وزير العدل الحالي، وتستهدف إنشاء جسم مستقل عن وزارة العدل، (النائب العام)، عبر قانون النيابة العامة، بمقدورها أن توفر الاستقلال التام للنيابة، كي تؤدي دورها كما ينبغي، وتوقف مساخر إعفاء الفاسدين من المحاكمة.
* ما لم تتوافر تلك الميزة للنيابة لن تعود للقانون هيبته المضاعة في قضايا الحق العام، وستستمر مساخر حفظ قضايا المال العام قبل وصولها إلى المحاكم، لتسمح بإفلات المختلسين والمفسدين ومستغلي النفوذ بجرائمهم، مثلما حدث في العديد من القضايا الكبيرة والخطيرة.
* ما ضاع حق وراءه مطالب في قضايا الحق الخاص.
* أما جرائم الحق العام فلا وجيع لها ولا بواكي عليها، لذلك نرجو أن يصبح النائب العام بهيئته وسلطاته الجديدة وجيعاً للمال العام، ليوقف كل أشكال التهرب من محاسبة المفسدين.