عقدة اللون الأبيض في (السودان)!

في طريقي إلى الخرطوم من كوبر مررت على عدد من محال التجميل أو قل الكوافير التي تجمع كلها على تعميق عقدة النقص والهزيمة النفسية لدى الإنسان السوداني وبتركيز أكبر على المرأة السودانية التي ترسخت في نفوس معظم بنات جنسها خاصة في المدن أن لونهن الذي خلقن به منقصة وعيب خلقي ينبغي أن يتخلصن منه بكريمات التجميل التي لو رصد ما يصرف عليها لربما تجاوز المليارات من الدولارات ..عقدة لا أراها في الأمريكان السود رجالاً ونساءً ولا في الدول الأفريقية ولا في كل العالم، أما هنا في بلاد تمتشق اللون الأسود (السودان) للتعبير عن اسمها فحدث ولا حرج!.
واجهات محال الكوافير كلها تقريباً تُجمع على وضع صور لنساء أجنبيات بيض البشرة بل أن الأسواق وبيوت الأزياء والمحال التجارية وصوالين الحلاقة كلها تركز على وضع صور نساء أو رجال بيض الوجوه والبشرة كرمز للجمال يسعى من نصبوها أمام محالهم – دروا أو لم يدروا – على ترسيخ مفهوم أن اللون الأسود عار وعيب خلقي ينبغي التخلص منه.
الأدهى والأمر أن الصحافة السودانية والقنوات الفضائية جميعها باتت جزءاً من ناشري ثقافة ترسيخ عقدة اللون الأبيض، فلا توجد مذيعة سوداء أو سمراء سواء بلونها الطبيعي أو المصنوع بالحقن أو الكريمات، وبات التصدي لتلك العقدة التي فشت وعمت حتى استسلم لها المجتمع وجعلها سلوكاً عاماً ينبغي أن يقتفي ضربا من المستحيلات.
صحافتنا مفتونة بصور المغنيات والممثلات اللبنانيات والمصريات والأمريكيات البيض والشقراوات، والأدهى والأمر أن الصفحات الفنية تمتلئ بأخبار أولئك الفنانات، وأصبحت قصة الفنانة المصرية (زينة) وصورتها بزيها الفاضح وطليقها أحمد عز مقرراً ثابتاً لا يكاد يغيب من صحافتنا (السياسية)!، في يوم من الأيام وما إذا كان الطفل الذي أنجبته تلك المرأة هو ابن طليقها كما تدعي أم أنه ابن رجل آخر كما يزعم هو، وتتابع صحافتنا بشغف بالغ تطورات القضية في مراحل التقاضي المختلفة وكأن زينة هذه خديجة بنت خويلد أو عائشة بنت أبي بكر أو مهيرة بت عبود أو رابحة الكنانية أو بنونة بت المك نمر أو امرأة من اللائي حفرن سيرتهن في وجدان هذا الشعب الأبي الكريم .
لطالما سألت الصحف التي تتبارى في ترسيخ عقدة النقص لدى إنسان السودان ..هل حدث أن نشرت إحدى الصحف العربية في مصر أو لبنان مثلا خبراً أو صورة لمحمد وردي أو عثمان حسين أو ندى القلعة أو صلاح بن البادية مثلا أو غيرهم؟
كل المجتمع بمؤسساته الثقافية والإعلامية والتجارية يتبارى في منافسة أو مسابقة حرة لهدم اعتزاز السوداني بلونه، وعندما كتبت سلسلة مقالات بعنوان (ديل أهلي) كنت أحاول أن أسهم في بناء مشاعر العزة في الإنسان السوداني ذلك أن الإنسان الذليل المنكسر لا يكون قائداً وزعيماً ولن يحدث نهضة أو يضع لنفسه أو أمته مكاناً تحت الشمس، وقد هزتني بحق الصورة المشرفة التي رسمها السودانيون بين الشعوب الأخرى في مواطن كثيرة لفتت الانتباه إلى تفرده في عالم القيم والأخلاق.
من كتبوا منبهرين بتفرد إنسان السودان عقب حادث مشعر منى خلال الحج الأخير لم يثنهم اللون الأسود الذي يحمله أبناء السودان عن الإشادة والانبهار بتلك الأخلاق الرفيعة التي فرضت نفسها على الناس أجمعين، وما كان اللون معياراً لتقديم الناس عند الله رب العالمين أو إدخالهم الجنة أو استنقاذهم من النار يوم الحساب، فلماذا نعمد إلى ترسيخ عقدة الدونية لدى أبناء شعبنا؟.
في أيام سيادة الإسلام على العالم ما كان الشاعر الكبير ابن زيدون يتغزل في شقراوات رعاياهم من الإسبانيات والأوربيات إنما كان يشبب بولادة بنت المستكفي وكان رمز الجمال ومقاييسه مجسدة في اللون الحنطي والشعر الأسود وكانت مقاييس الجمال عربية، وهكذا هي الدنيا ترفع من ارتفعت دولته وأمته حضارياً وتخفض من انخفض وانحطت مكانته ببن الأمم ومن سوء حظنا أننا ولدنا والمسلمون في العالم والسودان خاصة يقبع في القاع.
دعوت شابا فلسطينيا زائرا في فندق كورنثيا في أفطار رمضاني قبل سنوات ففاجأني بسؤال ..لماذا كل النساء ألوانهن فاتحة بينما الرجال معظمهم سمر الألوان ؟ لم أخدعه حين أجبت بأن النساء يستخدمن كريم تفتيح البشرة!.
أعجب أن ميثاق الشرف الصحفي مثلا يتغافل عن هذه الأمور القيمية بالرغم من أنها مرتبطة بالتربية الوطنية وكذلك الحال بالنسبة لبرامج الفضائيات وبالمناهج التعليمية التي لا تأبه كثيراً لقضية زرع الشعور بالعزة لدى المواطنين ومكافحة كل ما يخدش الكرامة ويكرس عقدة النقص لدى إنسان السودان.
أذكر انه قبل نحو عشرين عاما ، وكنت حينها أدير التلفزيون القومي جاءني الأخ مدني محمد عمر الذي كان وقتها على رأس إدارة الإنتاج التجاري لينبهني إلى إعلان تلفزيوني يتحدث عن كريم (تبييض) البشرة فأوقفناه تماما إلى أن عدل ولكن كانت العبارة البديلة (تفتيح) ولا أظن إننا فعلنا شيئا ذا بال رغم أن العبارة الجديدة أفضل من سابقتها!.
الحديث ذو شجون ويحتاج إلى تداول وإلى انتباه من كل أجهزة الدولة والمجتمع، فهلا التفتنا إليه باعتباره قضية وطنية تستحق النظر؟

Exit mobile version