> كل مشاكلنا في البلاد السياسية منها والاقتصادية والجوانب التنفيذية وسبب تعقُّدها ونتائجها الوخيمة التي نحصدها كل يوم، هو سوء الإدارة أو غيابها بالكامل. فليست لدينا مشكلة نواجهها في التوصيف والتشخيص والتعريف لأزماتنا، كل معضلتنا أن الإدارة كنظام وسلوك وممارسة..عاجزة وغائبة، ولم تستطع الدولة حتى اللحظة معالجة الاختلال الإداري وإعادة التوازن للخدمة المدنية، بالرغم من أن مشروعات تثويرها وإعادتها إلى سابق عهدها ودعمها وتأهيلها وتدريب كوادرها، هو برنامج مُعلن منذ مجيء الإنقاذ. ويختلف الناس في تقييم حجم الضرر الذي لحق بجهاز السودان الإداري كله، وقد تمدد هذا الضرر والضعف في إدارة الشأن التنفيذي إلى الشأن العام بمختلف ضروبه، فكل أزمة نعيشها وراءها معايب وعلل إدارية أدت لتفاقمها وانجرارها إلى الحضيض.
> كفاءة مؤسسات الدولة في الإدارة وصلت إلى القاع، لا يمكن إدراك الأعطاب والأمراض بسهولة وعلاجها بسير، لفقدان هذه النجاعة والكفاءة، ولغياب الخبرة والدراية والرؤى الصحيحة. ومن أكبر الأخطاء التي وقعنا فيها، إسناد الأمر لغير الخبراء الأكْفاء وجعل العمل العام مجالاً للتجريب والتخريب.. ولا ندري أين تذهب آلاف التوصيات والمقررات التي تتوالد في ورش العمل والسمنارات والمنتديات والندوات والمؤتمرات الكثيرة التي تُعقد لضبط العمل وترتيب وضع الجهاز الإداري وتثبيت وابتداع نُظم وأُطر فعالة لإدارة العمل ورفع كفاءة الجهاز التنفيذي..
> تباطؤ عمل الإدارات الحكومية والوزارات وحكومات الولايات، وضعف الأداء والإنجاز في كثير من المرافق الحكومية والقطاعات المختلفة الرسمية، وفي المجال الشعبي والأهلي والنشاط الحزبي، ومع وجود كثير من المشكلات اليومية المعقدة والمتكررة، يرجع السبب الرئيس في كل ذلك إلى عدم القدرة على التعامل مع الحقائق والمعطيات الموضوعية في الوقت المناسب وبقوة دفع مكافئة لحجم المشكلة، ومن ثم استنباط الحلول الموائمة والمناسبة بمعرفة الظروف المحيطة، ووضع الحلول لما يطرأ من قصور..
> نحن في حاجة إلى بناء نُظم دقيقة مُسيَّجة بتشريعات واضحة وحاسمة وناجزة عند التطبيق، لانتشال البلاد من قعر التخبط الإداري والفشل والعجز، وهذه ليست مسؤولية حكومية فقط، بل مسؤولية المجتمع ومؤسساته لتعلب دورها في وضع الأساس اللازم لهذه النظم المستخلصة من ثقافتنا العامة وحاجتنا الفعلية ورغبتنا وتطلعاتنا وإرادتنا في تغيير واقعنا إلى ما هو أفضل بكثير.
> كثير من البلدان حولنا وفي العالم الفسيح، خطت خطوات كبيرة في ترتيب أوضاعها ووضع نظمها الإدارية بكفاءة عالية أسهمت في التطور الاجتماعي والنهضة الاقتصادية وحققت الاستقرار السياسي والأمني، بفضل وضوح الرؤية الإدارية وحفز مؤسسات الحكم والإدارة على تقديم أفضل ما عندها مع التمتع بالصرامة الكافية في التطبيقات والتنفيذ.. يجب أن نخرج من النفق المظلم وإعادة الإدارة بمفهومها العتيق والعريق المتجدد إلى صدارة أولوياتنا، فكل أمراض التخلف قد أصابتنا منذ أن محقنا القانون ودسنا بأرجلنا على التشريعات واللوائح.. فلكي نعالج هذه الأدواء مجتمعة التي تكالبت على جسد الوطن ومنعت تعافيه، يلزمنا وضع المرهم والترياق والبسلم الشافي على جراح الخدمة المدنية وإعلاء قيمة العمل الإداري ورفع كفاءته والالتزام بأبسط قواعد العمل الناجح بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب..
> وعندما نتحدث عن إصلاح الدولة وإطلاق قدرة الإمكانات الاقتصادية والعلمية الكامنة في بلدنا لتحقيق معدلات عالية من النمو والاستقرار، لابد من استكشاف السبل الكفيلة بإعطاء دفع قوي للدولة ومؤسسات الحكم للقضاء على علل التسيُّب والفساد والتراخي، ووقف التدهور المريع في النجاعة الإدارية. فتهيئة الظروف المواتية لاستعادة الإدارة الكفوءة ونظامها، هو من أولى الأولويات التي يجب الحرص عليها للخروج من الحالة الباهتة للأداء التنفيذي، وعودة الثقة إلى نفوس المواطنين بأن الدولة قادرة على تضميد الجرح مثلما هي قادرة على اكتشاف الأخطاء..