كلّما زرت بيتنا في الجزائر ، انتابتني مشاعر متناقضة أمام تلك المكتبة الضخمة ، التي تُزيّن قاعة الجلوس ، بخشبها الفاخر ونقوشها المحفورة كتحفة فنيّة ، وما تحمله من كتب عجيبة في تنوّعها ، تتراوح بين سلسلة قواميس فرنسية تعود لأربعينات القرن الماضي ، بجلدها الأسود وحجمها الضخم الذي يعادل حجم جريدة اليوم ، والتي على مدى نصف قرن احتفظ بها أبي، وأخذها معه حتى منفاه في تونس أيام الثورة ، وكتباً أخرى لا تشبه اهتمامات أبي ولا اهتماماتنا في شيء ، تقبّلنا وجودها بحكم الأمر الواقع .
ولتلك الكتب قصة طريفة تختصر شخصية أبي . ففي بداية السبعينات ، دخل أبي مكتبة في ساحة الأمير عبد القادر ، تُسمّى اليوم “مكتبة العالم الثالث “وهي أكبر مكتبة في الجزائر، وراح يتصفّح الكتب ،ويطلب من صاحب المكتبة كتاباً ثم يعود ليطلب آخر، وبما يُعرف عن الجزائريين من عصبيّة ، وعدم الإستعداد لمسايرة الزبون ، قال صاحب المكتبة لأبي ” هل تنوي شراء الكتب أم أنت هنا لتضيّع لي وقتي ! ” ولم يتقبّل أبي نبرة الإستخفاف التي توجّه بها البائع إليه، فأجابه ” كيف تتحدث معي هكذا أنا أشتري مكتبتك هذه كلها إن شئتَ ! ” فأجابه صاحب المكتبة متحدٍ ” أنت تشتري هذه المكتبة كلّها !؟ ” أجابه أبي بنبرة آمرة ” أريد جردة بكل الكتب الموجودة عندك إني ذاهب لأحضر دفتر شيكاتي وأعود إليك ! ” .
ومشى أبي الذي لا يقود سيارة، شارع العربي بن مهيدي ، وصعد الدرج الشاهق الموصل لحيّنا بجوار قصر الحكومة ، حيث كان يعمل سابقا ، ثمّ الطوابق الخمسة الموصلة لشقتنا ، فقد كان المصعد معطّلا دوماً، ووصلنا منهكاً ولاهثا ، ودون أن يقول شيئاً عاد وغادر البيت .
في آخر النهار توقفت شاحنة أسفل البناية ، وراح عاملان يحملان إلينا صناديق الكتب الدفعة تلو الأخرى، وجاءني أبي إلى غرفتي سعيداً ، وقال لي بالفرنسية ” حبيبتي تعالي لقد اشتريت لك مكتبة ! ” وأمام فرحته العارمة ، أخفيتُ عنه ذهولي ، قبّلته وقلت له ” مرسي بابا ” . ( يتبع )