أزعم أن تجربة ساسة السودان القديم – على علاتها – أفضل بكثير مما يلوح به حاملو شعارات مشروع السودان الجديد، وأعني بالسودان القديم تلك الدولة السودانية الحديثة بحدودها القديمة وإرثها وتجاربها، هذا مع الأخذ في الاعتبار كل تلك الخيبات السياسية والمآزق التي أدخل ساسة السودان القديم والجديد بلادنا فيها، لكن وبالمقارنة فإن مآزق القدامى أفضل لنا بكثير من ملامح مشروع السودان الجديد.
فساسة السودان القديم كانوا قد تسلموا من المستعمر وطناً محقونا بالكثير من السموم والفتن المخبأة والظاهرة.. فقدموا تجاربهم ومحاولاتهم غير المكتملة، وأخطأوا وأصابوا، لكن القدر الذي تبقى من هذا السم الاستعماري كان كافياً لإفشال كل محاولات البناء والاستقرار والتنمية.
لاحظوا أن القوى والحركات المسلحة التي تتحدث الآن عن مشروع سودان جديد، بالتخلص من كل موروثات السودان السياسي القديم، هذه القوى حين تريد أن تكتسب طاقة ثورية شعبية دسمة ومغذية في خطابها وطرحها ومشروعها، تجدها تلجأ لمنتجات السودان القديم فتستدعي طاقة أكتوبر وطاقة أبريل..
أكتوبر التي لم يرفع أحد في حشدها شعاراً انفصالياً ولم تتلوث بأفكار التفتيت والتقسيم كانت ثورة شعبية حقيقية، قادتها وأشعلت شرارتها جهود التنوير التي كان يقوم بها ساسة السودان القديم هؤلاء، ومن هم الآن في قائمة اللعنة والتخوين والفشل من أصحاب مشروع السودان الجديد..
قوى السودان القديم هي التي قدمت محاولات يجب أن تكون مقدرة في بناء الدولة السودانية المدنية الديمقراطية، حتى نتحدث عن تغيير موضوعي يأخذ من التجربة نجاحاتها ويتجنب نقاط ضعفها وفشلها.
فعندما تحتفل حركة العدل والمساواة بمناسبة ذكرى أكتوبر وتقول في بيانها إن ثورة أكتوبر هي شاهد على الرفض الشعبي المطلق للظلم، ودليل على حالة إجماع قومي بالديمقراطية والسلام، يجب أن تتذكر هذه القوى أن ثورة أكتوبر هي من منجزات السودان السياسي والشعبي القومي القديم وليست من بنات أفكار قوى الكراهية والحرب وحملة البندقية.. يجب أن تتذكر أن احتفالها بذكرى ثورة أكتوبر واحتفاءها بهذه التجربة الشعبية الجماهيرية يتناقض مع رصيدها العملي من التجارب ومنهجها في محاولة الاستيلاء على السلطة عن طريق العمل المسلح والسعي لاقتحام المدن الآمنة بعربات التاتشر ومدافع الدوشكا.
ويجب أن تتذكر الحركة الشعبية قطاع الشمال أن ثورة أكتوبر التي يحتفلون بها لم تطرح جماهيرها ضمن مشروعها الثوري حكماً ذاتياً وانفصالاً للجنوب أو لجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان، هذا على الرغم من الظلم والقهر الذي كانت جماهير أكتوبر تنتفض لإنهائه وإنهاء نظامه العسكري في السودان.
من يريد أن يبني دولة مدنية عليه أن يبني نفسه ويؤسسها على مبادئ وسلوك وخيارات عمل الدولة المدنية وخيارات النضال المدني المعتمدة في هذا العالم.
وعلى من يريد أن يؤسس نظاماً ديمقراطياً عليه أولاً أن يستبدل دماء الإقصائية وديكتاتورية الرأي والفكر في عروقه بدماء ديمقراطية سلوكاً وممارسة حتى يقنع أحداً بأنه شخص ديمقراطي يحلم ويسعى ويريد أن تسود الديمقراطية.
شوكة كرامة
لا تنازل عن حلايب وشلاتين