ترى هل تتذكر الأمارات العربية هذه الحدوتة..؟

> «الكورة» في الأمارات العربية المتحدة لها سوق ولعيبة في غاية التميز شكلاً ومضموناً.. ولها إدارات في حجم شيخ محب ومنفق ومتواضع . ولها استادات وأندية «لو صفقت لها لرقصت» كما نقول في السودان حين نجمل تكامل الأوصاف.
ولكنها للأسف بلا جمهور وهي من حالات التخلخل في بنية الرقعة العربية ما بين الناس والأشياء وهي تذكرني حالة صديقنا العريس الممزق بين مفردات الجمال في الكثيرات وكان حينها ينتوي الزواج وقد أصبح جريح الفؤاد والاعتقاد في اثنتين، واحدة ذات وجه مليح لا يجارى وأخرى ذات سيقان لا تبارى وعندما طال تمزقه صاح متأوهاً ليت «وجه هذه في سيقان تلك» وأنَّى له .. والجميع يربت على روحه الهائمة ..إظفر بذات الدين تربت يداك.
والذي يرى امكاناتهم ويرى جماهيرنا يصيح مثل صيحة صاحبنا العريس ذاك ولكن باختلاف المقصد والمرافعة، ولأن للرواية بيت قصيد فالوسط الرياضي هناك كان لا حديث له في أيام يانعات بالذكرى إلا عن المشجع العربي «النوبي» والعامل البسيط المحب لفريق الأمارات برأس الخيمة الذي يترأسه الشيخ القاسمي وقد مني هذا الفريق في الآونة الأخيرة بمجموعة من الهزائم المتتالية لكن بلا يأس وكانت رحلته الاخيرة لمدينة أبو ظبي لمقابلة فريق الوحدة العملاق العسير على الهزائم والمشهود بالانتصارات وكانت هذه إحدى الرحلات المضنية لكسر عظمه نهائياً.. حسب وقائع القراءة للحال العام للفريق لكنهم ذهبوا حيث لابد من المنازلة وجاء المشجع «النوبي» الطيب القلب الخالي الوفاض للنادي حالماً ببص المشجعين لمرافقة الفريق المهيض الجناح فأخبروه أن مشجعاً واحداً لم يحضر وان البصات عادت أدراجها خالية الوفاض، وذهب الفريق لوحده لأداء واجب المنافسة لأن النتيجة معروفة سلفاً حينها غالب المسكين أحزانه ولملم ولاءه الكسير وطلب من الحارس أن يمنحه ملابس وشعارات الفريق وعلمه وتدثر بها وأصبح يصعد من شاحنة الى أخرى بطريقة «يا عم» حتى وصل ابو ظبي وجلس لوحده في المدرجات المخصصة لفريقه يشجع لوحده كانه سمع عبارة صلاح أن الرجل الواحد العظيم يشكل اغلبية ويرفع العلم ويهتف لوحده ولا يبلغ هتافه الشجي المدى الأدنى متمثلاً بتعزية أحمد بن الحسين «وحيداً توقاني العوازل في الهوى كما يتوقى ريض الخيل حازمه».
نعم كان وحيداً لدرجة أنه أمسى اللقطة الأسيرة لكل مصوري الفيديو والكاميرات الثابتة وهم ينتزعون وجوده العبثي الحائر وسط عشرات المقاعد الملونة الفارغة.. وأنت تعلم عزيزي القارئ .. أنه قليلاً ما يواسي القدر العبوس مشاعر الدهماء ولكنه لحسن الحظ في هذا اليوم بالتحديد قد فعل فقد استطاع فريق الأمارات وهو غريب الوجه واليد اللسان في تلك المدينة، وفي هذا اليوم أن ينتصر على الوحدة وبثلاثة أهداف فكأنما كانت هدية من وادي عبقر قلدت بعنق الخل الوفي الوحيد الذي كان حتى قبل دقائق معدودات تزدريه أعين الكاميرات الجاحدة وتخطئة الأعين.
> وفجأة تمثلت كل فرحة اللاعبين وجماهير رأس الخيمة وأمير الفريق ورئيسه في مشجع مسكين عربي نوبي بسيط حارب بإخلاصه كل دراسات الجدوى التي أكدت ابتداء فشل المشروع مادياً ومعنوياً لكنه الصدق الفياض في بواكير النفس الطازجة.
> لم يصدق أحد ان النجومية كلها أصبحت مسلطة على الرجل وزيه وعلمه وروحه التي تدحرجت من كل أعماقه وصارت كبسولة إبتسامة على وجهه المعروق ابتسامة تطال الجميع. عانقه الجميع وبكى على كتفه الجميع وزفته كوكبة اللاعبين كالعريس الى البص المكيف العائد منتصراً من لدن غريم عنيد.. صانعوه بالمعاملة والود والكلمات الساخنة المنتقاة ووضعوه مثل تميمة الحظ الزرقاء في المقدمة وغنوا له وغنوا معه «يا عديلة يا بيضاء يا ملايكة سيري معاه» ولكن بالخليجي.
وفي ذات المساء ظل الرجل وحده هو اللقطة النادرة في كل الفضائيات جلسته الفريدة هتافه بالاهداف توتره قلقه كل فرحه الطفولي ونصف حزنه هوانه على الناس وهيامه بالناس وتفاؤله الرامز في زمان اصبحت السلعة الوحيدة المتداولة في الشارع السياسي والإقتصادي والاجتماعي العربي هي سلعة اليأس وجلد الذات وتمرير المنشور المعد بعناية «ليس هناك حتى مجرد شمعة في نهاية النفق».
> وفي صباح اليوم التالي أصبح الرجل هو الفوتوغرافيا المتداولة في أغلب أخيرات الصحافة المصقولة بديلاً لشفاه نانسي وقدم هيفاء واثداء دينا وابتسامة نجوى الحرام المصنوعة بعناية ولأول مرة ينافس مندوب الغلابة واجب الأثرياء المعطوب، فرحت شخصياً لأن هذا البسيط النوبي بحبه هذا العفوي الذي يشابه امكاناته واهتماماته، قد سحب البساط تماماً من القتل العراقي العبثي المجاني وحملات الدعاية للمرشحين «الأمريكان» الذين يبدأون بإسرائيل وينتهون بها ودمشق الهرة العمياء التي تنهش في بنيها.. والسخرية من الامكانية المستحيلة لاختيار لأي ماروني مرضي عنه لحكم لبنان بالمحاصصة نعم في ذلك اليوم سحب البساط من القتل والسحل والدم والاغتيال المر الذي تمارسه اسرائيل ضد غزة وهي بالطبع لا تقصد به غزة وحدها وانما تقصد به الفحولة العربية والمصران الأعور العربي وحالات ضغط الدم وداء السكرى وتقسيم الأرق والمهانة بالتساوي من الخليج الهادر حتى المحيط الثائر أو من الخليج الثائر حتى المحيط الهادر وبحر القلزم والبحر الميت.
> ومما بعث الفرح والامتنان الاستثنائي في أنفس المتابعين أن الأمير المتابع والمهتم قد التقط المبادرة مشكوراً وعائلة القواسمة الحاكمة في رأس الخيمة مشهورة بالتقاط الخاص وتحويله الى عام بذكاء فطري ونفس فياضة بالكرم والعناية بالآخر.
فقد قام الشيخ بتكريم المشجع وتفريغه براتب معقول وساتر ومنحه داراً وسمح له باستقدام أولاده وكفل لهم حق التعليم وأصبح مشرفاً على حدائق النادي وأشجاره ومنحوه مبلغاً مقدراً من المال يواجه به غلواء الغلاء وبعض احلامه الصغار.
> ولأننا لا نريد أن نحمل الحكاية أكثر مما تحتمل إلا أن ظلالها وايحاءاتها تحمل الكثير من المعاني الانسانية التي تلامس عند كل واحد منا ملمساً «جوانياً» شفيفاً و حالماً أو أثيرياًَ.. ولأن يكون المشجع مصريا ونوبيا لفريق اماراتي علاقته ببلده علاقة عقد عمل وعودة ربما لا تتكرر تؤكد بأن هذه الأمة بينها وشائج من الروابط الدفينة تحاول جاهدة ان تجليها وتظهرها ولو عبر علم عابر فضفاض لتيم كورة عابر، والبحث عن انتصار عابر لفريق كرة قدم لا يعرف بالتحديد لماذا يبذل له كل هذا الحب كل هذه ملامح تدعو للتأمل أنها حكاية تستدعي معاني الانتماء وكسر الحواجز والازدراء بمعايير وقوانين وشكلانية الدولة الوطنية وهياكلها الغربية المحتوى والملامح
إنها حكاية تستدعي من الكبار والنخب والمثقفين الاهتمام بثقافة الجماهير والعامة وملح الأرض.. فهؤلاء قد أصابهم يقين يقارب يقين العجائز بأن قضايا الوحدة والتحرر والانعتاق والتقدم واللحاق بركاب التنمية والتقنية هي موضوعات من باب الطلاسم يقوم بها بعض الوزراء والنخب وبعض ورش العمل والمؤتمرات وهي من أحاديث الجرانيل والاذاعات والقنوات قضايا وإن تبسطت فهي من سمر الديوانيات أو برامج الحكم المحلي أو الانتخابات العامة حسب مساحة ومزاج الديمقراطية في كل بلد من بلاد اليعاريب الغساسنة والمناذرة.
ويظل أبداً الانتصار إنتصاراً حقيقياً بقدر ما نستطيع ان نفعل به .. وتظل الهزيمة أبداً هزيمة غادرة وبشعة ومقعدة بقدر ما تستطيع هي أن تفعل بنا من إنتكاسات .. وأقرب الأمثلة للتأمل ماذا فعلنا بنصر أكتوبر؟ وماذا فعلت بنا هزيمة حزيران؟
إن الدعوة التي حمل من أجلها هذا النوبي العربي المسلم لواءه لتشجيع ذلك الفريق الخيمة أمضى وأعمق مما فعل ولو أتيح له أن يعبر عن أشواقه بأية لغة بسيطة لفعل ولكن لا أحد يستنطقه ولا أحد يرغب في اعترافاته لأن لا مؤسسة في هذا العالم العربي تعترف لهؤلاء المضاعين بحق او بدور ولو صدقنا وطابقنا صدقه الدارجي بقولنا الفصيح لكان لسان حاله:
وأنا المقيم بحيث تشتجر القنا
فوقي وحيث كعوبها تتكسرُ
خلفي من الذكر الجميل أجلُّه
ومعي من النفر العديد الأكثرُ
وأنا لسان الشعب كل بلية
تأتيه أحمل ثقلها وأصورُ
فهل من اعتراف نيابة عنا بأحقية هذا المواطن وغيره من الذين يحملون كل هذه البلايا؟

Exit mobile version