على خلفية بيضاء ناصعة يحاوطها إطار أخضر شهير يتميز به تطبيق المُحادثات الإلكترونية Whst’sApp،تظهر كلمة «أحبك» على استحياء مُرفقة بـ Smiley face أحمر الوجنتين في إشارة واضحة للخجل على شاشة هاتف شاب عشريني، يتملكه الزهو والذهول من تصريح معشوقة بطبيعة مشاعرها، قبل أن يُرسل ردا يظهر مدى سعادة ورضاه، «راقصة واتس آب» الشهيرة..
أنه الحُب على طريقة 2015 حيث نقلت وسائل التواصل الإلكترونية مشاعرنا إلى الساحة الافتراضية عابرة المُحيطات. غير أن لعشق ثمانينيات القرن الماضي نكهة أخرى، نقلتها خطابات سرية طُويت ألف طية قبل أن تُرفق إلى الحبيبة في «سبت الخضروات» أو عُدلت صياغتها في اللحظة الأخيرة قبل أن يُهمس بها في لقاء خاطف على درجات السُلم، أو دفعتها الغربة وهجر أراض الوطن في البحث عن رزق ومعيشة كريمة لا تضمنها وظيفة رسمية أو مؤهل عالي، للارتباط بشريط بلاستكي صغير، يخزن الصوت والمحبة على بكرتيه ويحتال على الوحدة بزمنه القصير، ليصبح في تنقله من دولة إلى أخرى مؤدي دور الخطاب الصوتي، كاسر حدة الشوق وجامع من فرقتهم المدن لساعة أو بضع ساعة، رمزا للحب قبل 35 عام.
في انتظارك
عوضا عن خطاب كُتب باليد فحجب لوعة في نبرة صاحبه، ووصف بكلمة صماء فأخفي تنهيدات الحيرة ورجاء برد ربما يتأخر، اتجه عدد كبير من عشاق الثمانينيات إلى استخدام مُفردات عصرهم من «شرائط كاسيت» انتشرت في الأسواق بأسعار مُناسبة في صناعة لون خاص من الخطبات، يُسجله المُرسل أي ما كان موقعه حول العالم ويُرسله إلى حبيب يتتوق إلى لقاء أو محادثة تليفونية دولية تُكلف عشرات الجنيهات.
فسواء من دولة خليجية أو من الشقيقة الليبية، في حقيبة مُسافر عائد أو بين عشرات اللفائف المُكدسة في حقيبة ساعي بريد مُتعجل، انتظرت عشرات الحبيبات رسالة تُدفىء القلب من حبيب فضل الغربة لتأسيس عُش زوجية عصي التنفيذ. تطل من خلالها على أحواله وتطمئن إلى نبضات صوته المُفتقدة، في زمن لم تُيسره وصلات الإنترنت ولم تُخفف وطأة أيامه الهواتف الذكية.
لتُصبح سعادة العشرات مُعلقة بوصول وسيط يحمل «شريط كاسيت» من أراضي الغائبين، مخفي في حقيبة مُكدسة بسجاجيد الصلاة والعطور السعودية، أو نداء مُتقطع من ساعي بريد يُسلم أمانة طال انتظارها على صغر حجمها وقيمة ما تحفظ من تفاصيل، طوت المسافات وردت الروح بعد غياب.
في إخفاء المكاتيب
وعلى عكس الخطاب الذي تذوب كلماته في الذهن خلال دقائق معدودة، تطوي فيها العين صفحاته طيًا، باحثة عن مرداها في الاطمئنان على أحوال الحبيب بعيد المنال وتذوق لهفته التي ربما عجزت الحروف عن وصفها، وبقي خط يده المُرتعش بعيدا عن تصويرها، يصل «شريط الكاسيت» مُحمل بالعاطفة كاملة لصاحبته التي ما أن تضعه في جهاز مُسجل كلاسيكي حتى تخرج عن ناطق الزمن، متابعه الحبيب الغائب في وصوفه وزلات لسانه وتأكيداته وتطميناته وتساؤلاته وحيرته، التي لم يتركها «شريط الكاسيت» لتعبيرات مُصطنعة مُعدة سابقا كما في حالة What’sApp ، بل جسدها صاحبها بنفسه وربما سجلها على أيام مُتفرقة بأريحية وصبر.
لتستمها المُحبة في الجزء الآخر من العالم بينما تبقي يدها مُعلقة على زر Rewind، تُعيد من خلاله سماع كلمة «أحبك» وتتامل كلمة «سأعود» عشرات المرات قبل أن تقوم بنقل الشريط إلى وجهه الآخر، فتنصت في غرفة مُغلقة إلى وصايا الحبيب وسلاماته واجبة النقل إلى الأصدقاء، بينما يشملها الحذر من فتح أحدهم الباب حين غفلة منها، أو انجراف أحد أصابعها المُرتبكة بالسعادة إلى زر Record الذي يُدمر محتوى الشريط ويسجل اضطرابها وبكائها على ضياعه بدلا من رسالة المُحب.
ذكرى أبدية
وبدأ من بسملة هادئة يفتتح بها الحبيب حديثة مع الثوان الأولى للشريط وما يليها من تاريخ اليوم وسؤال تقليدي عن الأحوال، ومرورا بساعة سرده ليومياته، وعشرات الأسئلة عن أيام حبيبة يرجو منها إجابات يعلم بالضرورة أن وصولها اللحظي دربا من المُستحيل، لطال ما كان «شريط الكاسيت» رحلة رومانسية مشحونة بالعاطفة المُشتتة عبر المسافات، حتى وجود ما قطع خيوط الود فيها بدخول مفاجىء من أحد أصدقاء الحبيب على غرفة أثناء التسجيل ليدور حوار تضحك له الحبيبة عبر الأميال، فضلا عن روتين السلامات التي يُضعها المُحب على عاتق حبيبته.
وعلى سجية الخطابات، بل بكفاءة أكبر، حملت الخطابات المُسجلة لمحة من الأبدية، لا تُهدد بالاختفاء مع مرور الزمن، فتُحفظ في غلاف بلاستكي مُقاوم للتلف، يحمل ذكريات تُقاوم النسيان، وتحفظ حيويتها وتأثيرها على أصحابها مهما مر من السنوات، مملوءة بشغف المحبة الأول، وانقباضة القلب العفوية بسماع صوت المُحب. قبل أن يفقد تفرده ويستوي بالأخرين على مذبح Skype وغيره من مُفردات عصرنا الجاري.
المصري اليوم لايت