بين فجيعة الموت.. ودمعة المكلوم التي ذرفها الآلاف على روح “صلاح”، ولو سالت تلك الدموع ماءاً لغسلت شوارع المدينة المتربة بالإهمال.. والمسكونة بالخوف والوجع.. و”صلاح ونسي” يغادر الدنيا فجأة ، ويبكيه الصحاب بكاء لم يبكه “متمم بن نويرة”.. حين قال : (أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك ** فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
على حافة القبر.. كان السودان أجمعه يهرع في هجعة الليل من أطراف المدينة المحزونة.. رجالاً ونساء يعرفون قدر الميت.. الذي جاء يوم شكره.. آلاف الأكف تعزي بعضها.. تنتحب.. تذرف الدمع ليغسل الدواخل المحزونة ، ويفرج بعض من هم وكربة.. ومقابر الصحافة قد سدت طرقاتها آلاف السيارات، وآلاف من الحفاة الراجلين، هرعوا في هجعة الليل لوداع “صلاح ونسي” وكأن “خالد فتح الرحمن” حاضراً في مشهد الوداع، متأملاً بهاء المكان وهيبة الميت محمولاً على آلة حدباء.. و”خالد فتح الرحمن” يزهو
كل ذكرى منك جرحاً غائراً
جل عن آلامه الحُمر انشغال
أين مني الأنفس صياد الرؤى
والبشاشات على الوجه ابتهال
والأقاصيص التي لا تنتهي
ناقلات العمر من حالٍ إلى حال
منذ أن عرفت “البلة جودة” في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي في سوح الحركة الطلابية ونحن تلاميذ في مدرسة الشيخ “ونسي محمد خير” بكادوقلي الثانوية.. لم أشهد مظهر “البلة” البشوش الضاحك في وغي الحرب ومدلهمات الأمر ،وحين الفزع والجزع كان “البلة جودة” صابراً يعلم الصابرين الصبر.. لكنه لحظة وداع “صلاح ونسي” كان “البلة” غير “البلة” الذي يسامر في هجعة الليل بقصص وحكايات عن الشاعر الهندي والمفكر “محمد إقبال” وهو يذهب إلى أن آفة التربية الإسلامية هي التنظير في غير طائل ،وسيادة التجريد والجدل في الحديث عن أصول الإسلام ،بينما يحتاج المسلم إلى القوة أو صرخة التوحيد حسب تعبيره.. أي “إقبال” وليس “البله جودة”
ما في مدارسك التي ترتادها
إلا بحوث مغفل وبليد
سر الدراسة في فؤادك كامناً
لو كنت تحسن صرخة التوحيد
لا يعرف الآلاف الذين توافدوا على مقابر الصحافة أن الراحل عن الدنيا والمقيم في النفوس أنجبته الأرض التي تمتد من جبل (الفينقر) شرقاً وحتى جبل (أبوتولولو) غرباً.. ومن (السنوط) شمالاً وحتى (جنقاروا) القصار والطوال جنوباً.. تلك أرض خصبة مثل منحنى النيل في شمال السودان الذي قدم للدنيا والناس.. نثراً وشعراً وأدباً وساسة وعباقرة زمان.. من ” حسن الدابي” إلى ” السر عثمان الطيب” . ومن كرمكول “الطيب صالح” إلى “أحمد خير” المحامي، والعبقرية والنبوغ شيئاً من عبق المكان وخصائص المناخ .. وجينات الإنسان.. من تلك الأرض الرميلة والتربة الطينية.. جاء “يوسف العالم”.. واللواء “فضل الله حماد”.. و”عمر سليمان آدم”.. الذي لم تكشفه الحركة الإسلامية بعد!! ولا يُعرف لماذا تدخره وإلى متى.. وكيف لها الاستفادة من فكره الثاقب.. وجاء الشيخ “ونسي محمد خير”.. وجاء “أشقر مطر” عليه رحمة الله.. وجاء من قرية (لابده) بالقرب من الفرشابة “إسماعيل آدم أبكر” صاحب المدن المستحيلة.. جاءت لقاوة.. ونظارة المسيرية الزرق والناظر “عز الدين” والمفكر المثقف د. “سليمان الدبيلو” الذي وضع حزب الأمة وراء ظهره.. وخاض تجربة الانتخابات الأخيرة مستقلاً عن كل الأحزاب.. مثل “الدبيلو” تتشرف به البرلمانات ، ولكن حزب المؤتمر الوطني استكثر عليه الدائرة ومنحها لآخرين لا يكتبون ولكنهم يبصمون.. وكان الراحل “ونسي محمد خير” فقيهاً وخطيباً وعالماً وشجاعاً في قول الحق.. صارماً في تربية طلابه وتلاميذه قدم للدنيا “أحمد ونسي” الضابط الكبير.. قبل أن يقدم “صلاح” الذي كان يجسد واقع التيار العملي في الحزب والدولة، لم تشغله الشعارات ولا جدلية التصوف والسلفيين.. ما كان “صلاح ونسي” مشغولاً بتجريدات “هيجل” الفلسفية ولا يغوص عميقاً مع “المحبوب عبد السلام” حينما يتكئ آخر الليل على كتاب “الشاطبي” ودعواه الأصولية رغم المضامين العملية للإمام “الشاطبي”، كان “صلاح ونسي” باسماً يحمل بندقيته منافحاً بالدم والعرق والسهر ولسع الباعوض وأشواك خور انجليز وخور مريسة وخور العفن، الذي سمي هكذا لكثرة الجثث التي يحملها في فصل الخريف.. جثث ضحايا نزاع لا يعرف متى ينتهي.. وكيف يصير بعد سنوات و”صلاح ونسي” يمثل الوجه الوضيء للتيار العملي في الحركة الإسلامية ،تلك المدرسة التي وضع لبناتها الإمام “ابن تيمية” الذي قال عنه الإمام “مالك” (لم يكن عالماً فقط كسائر الشيوخ ولا متصوفاً كالغزالي ولكنه كان مجاهداً يهدف إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي.. فقد كان له دور في صد هجمات الصليبيين والتتر ، ووقف في وجه حكام الجور وعلماء السوء) وقد حمل “صلاح ونسي” (جرابه) على ظهره في سنوات النفاح عن الأرض والكفاح عن المشروع والذود عن الشمال في الجنوب لأن أمثال “صلاح” لم يشغلوا أنفسهم كثيراً بالمدرسة الكلامية التي تتعاطى السياسة والفكر في الإطار الذهني المجرد ، ومدرسة عملية هي التي أتخذها “صلاح ونسي” قدوة وهي ذات المدرسة التي أطلق صرختها الإمام “حسن البنا” حينما يقول: (كونوا عمليين لا جدليين) وقد أورث الاتجاه العملي عند “البنا” حراكاً اجتماعياً وتفاعلاً مع جهد الحركة ورسالتها.. وعلى النقيض من دعاوي “البنا” العملية كانت فكرة ” سيد قطب ” تميل للإطلاق والمجانبة والمفاصلة والامتناع عن الآخرين.
أخذ التيار العملي في الحركة الإسلامية من “سيد قطب” فكرة المجانبة والمفاصلة وحفر الخنادق وبناء القلاع، ولا وقت يهدر في دراسات الفلسفات الشرقية، ولا تأملات مثل “المحبوب عبد السلام” الذي يسهر الليل وأطراف النهار وهو يستغرق في تأملات عشريته الأولى “لو هزمت بلملم غناي وما بخونو وأبيع الكلام” وما بسلم شرف الدواية للهواجس وليل الخصام”..
وحينما كان “المحبوب” بغزارة علمه وسعة معرفته يسهر مع مثقفين من النمسا والمغرب الأفريقي.. ومن اندونيسيا وهو يترنم بأغنية من ديار الشايقية الذين أثروا الثقافة في بلادي بالشعر والأدب والفكر مثلما صنعوا مجد السودان الحديث حتى لو جلسوا اليوم في ضل الضحى يتأملون.
منو العمق جذور العزة
جوه الطين
وما هماهو ساعة الرحلة للمجهول
منو السلم صغار الغول
وكان اتغشه لم يتأمل العيش الملا القندول
التيار العملي في الحركة الإسلامية أسس الدولة الحديثة بالسهر والحمى، صنع من مخلفات الأنظمة السابقة في الأجهزة العسكرية والأمنية قوة حقيقية لم تحم النظام فحسب بل شكلت درعاً واقياً من الأطماع الإقليمية والدولية، ودفعة “صلاح ونسي” من خريجي جامعة الخرطوم كانوا ساهرين في طلمبات البنزين لحماية الثورة من (الخائنين) والطامعين.. منهم من هجر مقعد الدراسة.. ومنهم من هجر الزوجة والأبناء ومنهم من أقعدته الجراح حركياً ولم تقعد همته في صناعة الدولة الحديثة.. ومدارس التيار الإسلامي منها المتأمل والقارئ والذي يحمل الطورية والمنجل.. ومنها من يرعى دابته في أقاصي دار الكبابيش أو دار الزغاوة، والمقاتلين في أحراش الجنوب يتذكرون في هجعة الليل قول “الطيب” ود ضحوية:
الليل حليلو روح وحسس سروجنا يبنن
جدع النمة ود أب زيد وصوتو يحنن
نحن الكسر النظرة عيونا تجنن
ديمه درقنا بدم الرجال متحنن!!
البلد دي ماشى وين!!
المجهر السياسي