على الرغم من أنني أحمد الله بكرة وعشية على تخليصي وعتقي من مهنة التدريس، إلا أنني أقر بأنها كانت المهنة الوحيدة التي منحتني الرضا عن النفس، فالتعامل مع بشر ممتع، وخاصة إذا كان أولئك البشر يصغون إليك في أدب واحترام، ويهرعون إليك كلما استعصى عليهم أمر دراسي أو خاص، والعمل الإعلامي في العالم العربي عكس كل ذلك؛ فأنت تخاطب بشراً يعرفون أنك مستهبل ومنافق وجبان، وكاذب الكاتب الصحفي الذي يزعم أنه يكتب على الدوام ما يرضي ضميره (ما لم يكن ضميره مستتراً وجوباً أو للتعذر!!).
كانت أول تجربة لي في التدريس بعد أن قررت هجر كلية القانون إلى الآداب، وكانت هناك فترة انتقالية، فقررت أن أملأها بالعمل، وخاصة أن والدي، الذي كان يعتبر التعليم الجامعي مضيعة للوقت ومفسدة للأخلاق، ما كان ليسكت على تضييعي بضعة أشهر صائعاً، وتم تعييني مدرساً في مدرسة متوسطة (إعدادية) جديدة، وكانت أسرة التدريس تتكون مني ومن السيد الناظر –أي المدير– وأثناء قيامنا بتوزيع جدول الحصص بيننا، أدركت أنه يريد مني تدريس الرياضيات، فقلت له بلا تردد: هذه استقالتي، لأنني لم أكن أعرف وقتها من جدول الضرب إلا جدول عشرة، ففاجأني الرجل بقوله إنه أيضاً سيقدم استقالته لأنه لا يعرف حتى جدول عشرة.
وهكذا تعيّن علي أن أنقذ وظيفتي ووظيفة الناظر ومستقبل عشرات الصبية، وخرجت من مكتبه حاملاً كتاب مقرر الرياضيات للصف الأول ومعه مرشد المدرس، واعتكفت في البيت نحو أسبوع مع الدرس الأول ولكن «مفيش فايدة» لم أفهم منه شيئاً؛ فاضطررت إلى الاستعانة بمدرس خصوصي، كان زميلاً لي في الجامعة، قَبِلَ تدريسي المنهج مقابل أن أدفع له كلفة المواصلات وأشتري له يومياً سندويتشاً من الفول، وبدأت أدرس التلاميذ الرياضيات على استحياء، ولكن بعض التلاميذ النجباء كانوا يحرجونني بالحديث عن طرق أسهل وأفضل لحل المسائل الرياضية، فأصيح في الواحد فيهم: اسكت يا قليل الأدب، يا شيوعي.. هل تفهم المقرر أفضل من الحكومة التي وضعته؟
وإيثاراً للسلامة، وخوفاً على مستقبل الصغار من الضياع، استأجرت مدرس رياضيات من الباطن، وكنت أدفع له قيمة كل حصة من جيبي الخاص، فقد كان لئيماً ومن النوع الذي لا يتحرج في الصياح في فناء المدرسة: هات الفلوس يا أستاذ ولا..!! وسمع زملائي في الجامعة بحالي فتطوع نفر كبير منهم لتدريس الرياضيات ومختلف المواد، مقابل سندويتشات الفول أو السجائر المحلية التي اتضح أن دخانها يسبب الرمد والعقم، وانصلح حال المدرسة وارتبطنا بها أنا وأولئك الزملاء سنوات طويلة، ندرس فيها تطوعاً أو مقابل تلك الحوافز البائسة!
وعندما حان موعد جلوس تلاميذ أول دفعة منها لامتحان الدخول إلى المدارس الثانوية، رابطنا في المدرسة نهاراً وعصراً نراجع الدروس مع التلاميذ وننظم حصص التقوية، حتى جاء ترتيب المدرسة الأولى على مدارس المنطقة، وكان ذلك من دون حوافز، ولم أجن شيئاً من تعبي معهم طوال تلك السنوات إلا عندما عدت من أبوظبي إلى الخرطوم ذات عام، وكانت حكومة نميري وقتها قد قضت على الأخضر واليابس، وتفرض جمارك حتى على النظارات الطبية، وكنت أحمل معي أجهزة إلكترونية، وقد أعددت لها ما استطعت من دولارات، ولكن موظفاً في الجمارك رفض فتح حقائبي، فلما نظرت إليه مندهشاً قال لي: أنا تلميذك فلان، ثم سألني: في أي مدرسة أنت الآن؟ فقلت له: تاب الله عليّ بقرار من رئيسك الملهم المهيب جعفر نميري، وهو القرار الصائب الوحيد الذي صدر عنه، فصاح: روح، الله يخليك يا أستاذ ما تودينا في داهية!
jafabbas19@gmail.com