ومن ضمن أسفاره الكثيرة داخل السودان، يوزع المرح والسرور والسعادة على أبناء البلاد، كان عبد العزيز محمد داؤود في كردفان وكانت معه شلة من العازفين على رأسهم خواض وإنتهى به المطاف في مدينة رشاد، كان ضابط مجلسها حامد علي شاش ومعه في رشاد أيضاً محمد صالح عبد اللطيف وعمر الزين صغيرون، وكانت المناسبة يراد من عائدها عمل يعود بالنفع على المواطنين، ورأى شاش زيادة في الحيطة لإنجاح الحفل مالياً أن يخرج بالإعلان عنه إلى خارج دائرة رشاد نفسها ليشمل مساحات جيرانها في (أب كرشولة) والبطحة..
ورأى أن يصحب معه عبد العزيز محمد داؤود إلى تجار تلك المناطق ليتعرفوا عليه وفي ذلك ما يغريهم أكثر ويشدهم إلى الحفل المنتظر فيكون إقبالهم عليه كبيراً، وإصطحب شاش الفنان عبد العزيز في سيارته وأثناء جلوسهما في (البطحة) أخذ ضابط المجلس يتحدث إلى مستمعيه عن الليلة وعن عبد العزيز وما ينتظرهم فيها من طرب وترفيه وبعد أن قدم لهما الضيف وقف تاجر شاب وقال في عصبية وعدوانية: والله يا جناب الضابط إحنا لا بنعرف عبد العزيز ولا بنعرف عبد الزمار (عايزيننا نجي الحفل جيبوا لينا عائشة الفلاتية)، إختصر حامد علي شاش، وهو رجل مثقف رقيق أحس بأن كرامة عبد العزيز قد جرحت فوقف غاضباً محيياً الجميع دون استزادة من كلام أو تعقيب وإتجه إلى عربته فلحق به عبد العزيز وأخذ مكانه إلى جواره، وقال له المسألة غاية في البساطة ليس هناك ما يغضب، هؤلاء أناس على سجيتهم وفطرتهم فالذي في قلوبهم على ألسنتهم، أنا لست غاضباً ليس هناك شيء في الوجود يغضبني وأني فكرت في الكيفية التي أحول ما ظننته أنت مأساة إلى شيء كوميدي ما رأيك أن أطوف غداً داخل سيارات المجلس وأطوف على رشاد وغيرها ويكون أحد موظفي المجلس يقف خلف مايكرفون العربة وينادي الناس أن هلموا إلى الليلة الساهرة مساء اليوم التي يشجيكم فيها الفنان عبد العزيز محمد داؤود زوج المطربة عائشة الفلاتية، وخرجت العربة كما أراد عبد العزيز وطافت على مدينة رشاد على أب كرشولة والبطحة مبشرة بليلة ليست ككل الليالي، ونجحت الليلة نجاحاً منطقع النظير حققت دخلاً خرافياً بمقاييس تلك الأيام وفي تلك المنطقة فإن الأعمى يحمل المكسح كما يقول عبد العزيز ويضيف ولا تذهبن بك الظنون فتعتقد أن الذي جاء بالناس هو المطرب عبد العزيز محمد داؤود فالذي جاء بهم هو أن يلقوا نظرة حسد على (زوج الملكة) فإن حرموا من التطلع إلى رؤية الفلاتية فليس أقل من أن تكتحل عيونهم بشريك حياتها الذي يقاسمها المسكن والمأكل والملبس والمشرب ولا يغيب أحدهما عن الآخر إلا لمقتضيات السفر وما شابه ذلك.
وجمعت واحدة من الزيارات الغنائية خارج القطر عبد العزيز محمد داؤود وإبراهيم الكاشف وعائشة الفلاتية وموسى محمد إبراهيم عازف الفلوت والموسيقار عبد الفاتح الله جابو والموسيقار عز الدين أوفدتهم الحكومة إبان حكم الفريق عبود لمشاركة نيجيريا إحتفالها بعيد إستقلالها وإقتضى البرنامج أن يغنوا في أكثر من مكان كانوا في طريقهم من لاغوس إلى كادونا وهو مشوار طويل جداً يربو على الألفي كيلومتر وكانت تقلهم سيارة فيما يذكر عبد العزيز (شفروليه) جديدة لنج والشارع طويل مسفلت وعريض وبعد مضي ما يقرب من عشر ساعات ظهر التعب على الكاشف، وقال لابد لي من طبيب فقد أخطأت عندما ظننت أن المشوار ليس بهذا الطول فأنا لم أحضر معي الحبوب التي أتغلب بها على معاناتي مع مرض السكري وإنتبه سائق السيارة وقال بعربية فصحى، وهو رجل كما قال تجاوز الثانية والثمانين من عمره وإن كان يبدو في سن الخمسين أوشكنا أن نصل مكاناً قريباً فيه طبيب من أصدقائي لكنه أضاف هل تعلمون أن مرض (السكري) ليس منتشراً عندنا في نيجيريا فهو من الأمراض النادرة جداً ذلك أن النيجيري يتزوج مبكراً أحياناً في سن الثالثة عشرة ويعيش على القورو والقدو قدو والأرز ويتزوج بأربع نساء عندما يصل العشرين يتزوج الثانية وفي الخامسة والعشرين يتزوج لثالث مرة أما الرابعة فيكون زواجه بها عندما يبلغ الثلاثين، ولاحظ الركاب أن سائق العربة كان يقودها حافي القدمين لكنه يبدو رجلاً مثقفاً يلم بكل كبيرة وصغيرة في بلاده إلى جانب معرفته بكثير من أوجه الحياة في العالم وبخاصة السودان وجاليته النيجيرية الكبيرة التي غطت مساحات لا يستهان بفخامتها في أنحاء متفرقة من البلاد ووصلوا إلى المدينة الصغيرة في الطريق ودخلت العربة بعض شوارعها الضيقة وأمام منزل بعينه مثبتة على حائطه قريباً من الباب لافتة صغيرة ودق السائق الجرس وفتح الباب فإستقبلته أحضان صاحب البيت الطبيب وقص عليه قصة وقوفه هنا فدخل إلى بيته ولم تمضِ لحظات حتى جاء بالحبوب المطلوبة ومعها كوب ماء فتناول الكاشف واحدة ثم كروا عائدين إلى الشارع الرئيسي لمواصل السفر وكانوا يتغلبون على ذلك المشوار الطويل بأن تغني الفلاتية (بلال يا بلالنا) بناء على طلب عبد العزيز وكانت الفلاتية تشكو من أن الأغنية تحتاج إلى نفس طويل وأن أنفاسها تقطعت وعبد العزيز يصر ويغني معها خاصة بعد أن شاهد سائق السيارة المثقف قد مال طرباً وإنتشى وإرتفعت معنوياته مما جدد نشاطه وأكسبه حيوية ثم عرجوا جميعاً يغنون بأغنيات عبد الحميد يوسف ولكنهم لم يستطيعوا الإستمرار فيها فهي قد ركنت كثيراً ولعلها المرة الوحيدة والنادرة التي ظهر فيها عجز عبد العزيز عن غناء لمطرب آخر وعبد العزيز صديق حميم لعبد الحميد يوسف، فالثاني كما تعرف كان مقاولاً وهو الذي بنى منزل عبد العزيز الحالي الذي تركه من بعده لأسرته في الخرطوم بحري ومضوا في طريقهم يمرحون ويغنون والشخص الوحيد الذي إستطاع أن يواصل الحديث مع السائق هو عبد العزيز محمد داؤود ذلك أن السائق كما أسلفنا كان يتحدث اللغة العربية الفصحى، وهي لغة صينية بالنسبة لعائشة الفلاتية تفهم المتحدث بها لكنها لا تملك أن ترد عليه فكان يقوم بالترجمة عبد العزيز، وفي نهاية الرحلة سأل عبد العزيز السائق الذي صحبهم في رحلتهم الشاقة الممتعة تلك قال: لم نتعرف على الأخ من أنت؟.. فرد السائق ببساطة شديدة: (أبو بكر سامي) مدير الإذاعة.
صحيفة السياسي