الأغنية كلمة جذابة وحبيبة إلى النفس ومعنى كبير، يدشنها شاعر، ويحسن تصويرها ملحن، ويقدمها فنان ليصور أحاسيس كل شعب، وهي نغم حلو يرهف الحس ويلهم الوجدان، ويبعث الأمل لعبور الألم ويرسم البسمة ويترجم السعادة ويحكي تاريخ الشعوب وكما قيل فإن نهضة الأمة تقاس بروعة فنونها وأغانيها وألحانها ومبدعيها، ونشير في هذا الصدد لشاعر قامة قدم الكثير من الأغنيات الخالدة، وشنف آذان السودانيين فى سنوات الأربعينيات والخمسينيات بحلو الكلمات ودررها، احتل الشاعر القامة محمد عوض الكريم القرشي موقعاً رائداً بين النجوم وأساتذة الشعر السوداني، ملأ أمكنة رفيعة عندما قدم أجمل الأشعار التي صارت علامات فارقات في مسيرة الأغنية السودانية بدءاً من رائعته الذكريات صادقة وجميلة
مهما تجافينا بنقول حليلا الذكريات في كل ليلة
توحي للحبايب أشياء كثيرة ومروراً بالزهور والورد شتلوها جوة قلبي عشان حبيبي تذكارو ديمة عندي وطيف جمالو متى انت غبت عني اجتمعنا في تهني وتمنى ثم افترقنا وكأني ما كأني.. ومن ثم القطار المر فيه مر حبيبي/ بالعلي ما مر يا الشلت مريودي/ في الرصيف مستني وللثواني أحاسب امتى يظهر نورو.
النشأة والميلاد
ولد الشاعر محمد عوض الكريم القرشي في عام١٩٢٣ في مدينة الأبيض، وهو من والد من منطقة (جبل أم علي) بنهر النيل وأمه عائشة بت الحسين من ديار الشايقية، وكان وحيدهما, أما والده فكان ينشط في تجارة المواشي في تلك الناحية من كردفان.
ظهر نبوغ ود القرشي في عام١٩٣٩ بمدرسة الأبيض الأميرية حينها كان يقدم مسرحيات، وقد عمل سكرتيراً لنادي الأعمال الحرة، ولنادي الخريجين ولحزب الأشقاء، عمل تاجراً للمواشي مثل والده، حيث كانت تجارة الماشية (الأبقار) التي يأتي بها بائعاً من الأبيض إلى ود مدني ثم الخرطوم، حين كانت ود مدني سوقاً تجارية رائجة وحينما حل ود القرشي بالأبيض سمع بأن هنالك فتى من شندي قد ظهر في الإذاعة اسمه عثمان الشفيع، وحينما سمعه خلال الإذاعة أعجب به أيما إعجاب، ولما كان دائم الزيارة إلى أم درمان لأسباب من عمله السياسي كناشط في الحركة الوطنية غُيض له أن يلتقي بالشفيع في خمسينات القرن المنصرم، حيث سمح له بغناء نصه الشعري الموسوم بـ (وطن الجدود).
قبلها وفي العام 1944م حل أحدهم ضيفاً على العاصمة (الخرطوم) بغرض لقاء الفنان الكبير أحمد المصطفى، ولما حدث ذلك عرّفه بأنه الشخص الذي أرسل إليه ذلك التلغراف الطويل، وأنه من أبناء الأبيض واسمه (محمد عوض الكريم القرشي)، فنمت بينهما صداقة سريعة، كان مهرها أن قدّم القرشي للمصطفى رائعته (يلاك يا عصفور) تأليفاً ولحناً، فعمت شهرتها الآفاق وشدا وحدا بها الركبان.
القطار المرّ
انطلاقة الشاعر المبدع محمد عوض الكريم القرشي تساوقت مع بروز نجم الفنان عثمان الشفيع حيث ابتدرا شراكتهما بأغنية (القطار المرّ) في العام 1948م وتواصل العطاء ردحاً من الزمن قدّم فيها العملاقان نفيس الدرر وبدائع الألحان ورائع الأداء، فدخلا كتاب الفن مع قممه الشماء، أحمد المصطفى وإبراهيم الكاشف وحسن عطية الذين كان لهم القدح المعلى في ترقية ذوق المواطن السوداني وحضارته.
أغان وطنية ووجدانية
كانت الأغاني الوطنية في قمة اهتمام الثنائي (القرشي والشفيع)، حيث عاصرا مرحلة المطالبة بالاستقلال وخروج المستعمر، حيث كانت الأغاني الوطنية تشعل الوجدان وتؤجج المشاعر، ولعل أشهر تلك الغاني والأناشيد: (للعلا، صرخة روت دمي، وأخي النصر للكتل الجائعة، وطن الجدود، أم ضفاير قودي الرسن) وخلافها، ثم لم يبخل ود القرشي ولم يضن عثمان حسين على الجمهور بالأغاني العاطفية الرائعة مثل (الحالم سبانا، الزهور والورد، رب الفن، الأقمار، الشاغل الأفكار، في الشاطئ يا حبان، لحن الحياة منك، القطار المر، خداري، البان جديد، عشقتو من نظرة، حنتوب الجميلة)، وغيرهن من الدرر.
إفادة القرشي الابن
إلى ذلك، يقول حامد للقرشي ابن الشاعر الراحل إن لوالده كم هائل من الأغنيات تعدى الـ (130)، وقد شاركه عدد من الملحنين منهم محمد عبدالكريم القرشي برعي محمد دفع الله، علاء الدين حمزة، وعن علاقته بالفنان القامة عثمان الشفيع يقول حامد القرشي إن صداقة عميقة ربطت بين والده الراحل (محمد عوض الكريم القرشي) والراحل الفنان (عثمان الشفيع)، فكونا ثنائيا مميزا وظهرت أجمل الأغاني التي تغنى بها الشفيع لود القرشي الذى كان يسمى بالأرباب، رب الجمال، رب الشعور، رب المحاسن، رب الفن، رب السعادة، رب الوداعة، رب الدلال وغيرها، توفي القرشي في العام 1969 بعد صراع طويل مع المرض.
اليوم التالي