«في شارع الدنيا انكسرتُ غمامةً سمراء .. تَبتزُّ العذابَ لَعلَّه .. في القلب تندلع القصيدة بغتةً .. ويهبُّ نعناعٌ وتلثغ نحلة.. يقتاد ضوء ما جناح فراشةٍ .. من غصن زيتونِ وراء التلَّة.. مطرٌ على الأقصى .. الدموع سلالمُ نحو السماء .. والله يُمْدِدُ حَبله» .. الشاعر أحمد بخيت ..!
٭ الشعراء أشخاص استثنائيون جداً، نزقون رُبَّما، ردودُ أفعالهم ذاتَ زوايا حادَّة رُبَّما، لكن هؤلاء القوم شاهقون بلا مراءْ، وهم أكثر المبدعين ثقةً بأنفسهم وتقديراً لحجم إبداعهم، متَّكئين في ذلك على عقود الاحتكار الأبديَّة التي وقَّعوها مع شيطان الشعر، فليس أيا كان مقدرٌ له أن يصبح شاعراً .. الشعر كالغفران، يُمنح لكنه لا يُشترى، يُوهب ولا يكفي أن يُطلب ..!
٭ لكن الشاعر هو أول من يدفع ثمن تلك المَلَكَة الباهظة وآخر من يجنى رَيْعها .. لذا فقد درج الناس منذ الأزل على أن يقايضوا صبرهم على نَزَقْ الشعراء بتلك المتعة العظيمة وذاك الانبهار اللَّطيف الذي يجدونه في تذوقهم للتراكيب والصور العميقة التي تشرح جراحهم وتُفنِّدُ دواخلهم المفعمة بالإنابة عنهم .. إنها هيبة الشعر وعظمة الشاعر ..!
٭ لكن المتشاعرين كُثُرْ، وقد كنت منهم على نحو ما قبل أن أكتشف عالم السرد الجميل! ..
في طفولتي كبعض الصغار المتحذلقين كنت أتَشاعَر بقصائد قصيرة جداً وساذجة جداً، ولا زلت أذكر قصيدتي عن أطفال الحجارة التي ألقيتها في فناء المدرسة بصوت مرتجف من هول الموقف المهيب، كانت تلك أول مرة أتحدث فيها أمام حشد من الناس وكدت أموت فَرَقاً وخجلاً، لم أكن أعرف يومها أن مخاطبة الحشود بصوت واثق في قاعات المحاكم أو منابر الإعلام سيكون المهنة التي سأختارها بملء إرادتي ..!
٭ عندما قرأ خالي رحمه الله – والذي كان يعمل وقتها في إحدى الصحف – قصيدتي تلك اقترح محاولة نشرها تشجيعاً لي، الأمر الذي أفرحني كثيراً، لكنه بدَّد فرحتي بمهاتفتي بعدها ليسألني بتشكُّك إن كنت أنا من كتبها فعلاً! .. لا زلت أذكر الآن كيف آلمني ذلك وكم شعرت بالمهانة فأجبته بحزم طفوليّ بأن ينسى أمرها إن كان لا يصدقني..!
٭ على أعتاب الأنوثة اقترفت آخر محاولة فاشلة لكتابة قصيدة أذكر أن مطلعها كان:
«ليت انتظار الفجر يسفر عن جديد .. الفجر ليس القطر والأنسام و الضوء الوليد ..
الفجر ليس نعاس أطفال المدارس حين يتلون النشيد» .. إلى أن قلت: «
الفجر أن نصحو معاً
.. والليل أن نغفو معاً ..
نرسم للفجر الجديد» ..!
٭ بعد كتابتها بدقائق فقط كنت أنا أول الساخرين من هذا الكلام وأول المستخفين به، أما الأسباب فقد كانت موضوعية جداً، ومن ضمنها على ما أذكر: أن أطفال المدارس لا يتلون النشيد المزعوم في الفجر، وإنما يفعلون ذلك في الصباح بعد شروق الشمس لأنهم مجرد أطفال وليسوا مجندين في الجيش النازي! .. وحتى لو قمنا باستبدال الصبح بالفجر بمعنى أن نقول:
«ليت انتظار الصبح يسفر عن جديد» .. ستواجهنا مشكلة أكثر فداحةً وهي أن الصبح لا يكون الضوء فيه وليداً، بل تكون الشمس فيه ساطعةً كحقيقة إسرائيل، وسطوعها بطبيعة الحال سيؤدى إلى تبخر القطر المزعوم، فلا يمكن أن نقول: «الصبح ليس القطر والأنسام والضوء والوليد» .. ثم أنَّ النهاية سخيفة ومبتذلة .. يعنى .. قافية والسلام ..!
٭ وقتها كنت قد ودَّعتُ طفولتي كما ودَّعتُ التشاعر إلى الأبد .. فالمسألة في منتهى الصعوبة، وشيطان الشعر شخصية غاية في الحزم والنزاهة، والأدهى والأمَرّ أنه لا يعترف بالواسطة .. ثم أنه ليس أسوأ من التَّشاعر والشعر الرَديء إلا الإصرار عليه .. وعليه فإن الاقتصار على التّذوق هو الخيار الأذكى والأفضل ..!