بعض العبارات والمفردات ترسخ في الذاكرة, إما لجمالها أو لغرابتها أو لطرافتها أو لجدتها أو لما تتضمنه من حكمة أو لأي سبب يستبقي تلك الجمل والعبارات والمفردات, وبعضها يظل راسخاً من سنوات الطفولة أو ما بعدها, وهي الفترة التي تكون فيها الذاكرة خالية من الشوائب وصاحبها يكون على أتم الاستعداد للحفظ والاستيعاب.
تذكرت أبيات شعر قرأتها في كتاب (حوار مع الصفوة) للدكتور منصور خالد, وكنت آنذاك طالب علم في المرحلة الثانوية- عام 1974م- كنا ثائرين ومتمردين, ونرى أن السودان يجب أن يكون كما نريد, لا كما يريد النظام, وكنا معبأين بروح التمرد والثورة التي زاد أوارها مشاركتنا في ثورة شعبان 1973م- أغسطس- وقد أغضبتني أبيات شعر ذكرها الدكتور منصور خالد, في كتابه ذاك عندما ذكر أن أحد أصدقائه نصحه بأن ينأى بنفسه عن التهلكة, والتهلكة لديه هي (السودان).. فقد كتب صديق الدكتور يطلب إليه أن يبقى حيث هو في أوروبا لأن السودانيين أناس أدمنوا الموت ويقول له: لقد جاء بنا الفتح العربي إلى هذه الأرض الخبيثة.. وتبع أباؤنا الأعراب عجالهم إلى السلم الشاحب في صحراء السودان, فأضلهم السراب.
فالشمس تطلع في السودان كاذبة
وليس تنبت غير اليأس والعدم
أثارها الفجر فقاعاً أكابده
كأساً يجف وقفراً طامساً بدم
ذلك الرجل أمثاله كثيرون, حتى بعض من نسميهم مجازاً بالقيادات وهم من شاكلة ذلك الرجل الذي يمكن أن يكون نموذجاً حقيقياً وصادقاً للتشاؤم والإنهزام والتراخي, وهم للأسف الشديد متجذرون.. و.. متناسلون, يريدون (البلد.. زي ما عايزينها هم) لا كما يريدها كل الناس, الذين هم الشعب المتعدد الأعراق المتنوع الثقافات, المختلفة ألوان أهله وألسنتهم.
أخذت أقلب بعض أوراقي وكتبي القديمة في مكتبتي المنزلية, أبحث عن مراجع أعود إليها إن أردت الوقوف عند الحوار الوطني قليلاً والكتابة عنه, أردت أن أبحث في عقلية بعض النخب السياسية الحاكمة, والتي تريد أن تحكمنا إلى يوم الدين, والتقطت عيناي ثم يداي لاحقاً كتاباً أعتبره مرجعاً مهماً في تاريخ السودان السياسي, أهدته لي أسرة الصحفي الكبير أستاذنا الراحل علي حامد (في الصميم) الذي تربطني بأبنائه وأسرته أقوى الأواصر, وهو كتاب (صفحات من التاريخ.. الحركة الوطنية السودانية), وكنت قد أشرت على هامش إحدى صفحاته علامة (مهم), وهي الصفحة السابعة عشر التي تضمنت الفصل الثالث الذي حمل عنواناً هو: (الأعيان يناصرون الإدارة الإنجليزية) وذلك من خلال إجتماع إنعقد في منزل السيد عبد الرحمن المهدي بتاريخ الحادي عشر من يونيو عام 1924م وضم بعض أعيان الخرطوم وعدداً من موظفي الحكومة الكبار وغيرهم.
الإجتماع عقب قضاء السلطات على ثورة 1924م وبعد إستشهاد البطل عبد الفضيل الماظ وهو يحتضن مدفعه, وبعد محاكمة العسكريين والحكم على قادتهم بالإعدام..
العقلية الإنتهازية لا زالت تتحكم وتريد أن تتحكم بنطفتها في مستقبل البلاد الذي أصبح مهدداً بهذا الفهم الضيق للأمور, وهم يريدون منا أن نقول لهم: (سمعاً وطاعة).. وهذا هو ما أوردنا موارد الهلاك والحرب والإقتتال.