«دعوني أبكي، فما أكثر الضاحكين في مواقف البكاء» .. عبد الله القصيمي!
توفيت جدتي لأمي – رحمها الله – في أيام طفولتنا المبكرة، وكنت وبقية أقراني نهيم يومها على وجوهنا بين فلول المعزيات الواقفات على عتبة الدار عندما اقتربت منا إحدى الجارات .. كانت تداعبنا وتمازحنا وهي تضحك كعادتها دوماً، لكنها ما أن دلفت إلى بهو المنزل حتى بدأت ملامحها تتغير شيئاً فشيئاً .. ومع كل خطوة تخطوها كان وجهها يزداد عبوساً .. وكأنها «تُسخِّن» على طريقة لاعبي كرة القدم قبل نزولهم إلى ساحات اللعب .. وما أن لمحت أهل العزاء وهم يطرقون في حزن بالغ حتى شرعت في البكاء والعويل ..!
كنت أرقبها بفضول الأطفال الذي يتجاوز حدود المعقول .. سائرة خلفها .. مأخوذة بتلك التحولات البديعة في ملامح وجهها .. وكانت في أثناء بكائها كمن تؤدي رقصة تعبيرية بارعة .. ترسل يديها في الهواء وكأنها تتضرع وتبتهل .. ثم تضع كفيها على رأسها بطريقة مسرحية بديعة .. تبكي بدموع سخية .. تولول بحرقة بالغة .. وكأنها ليست ذات الخالة التي كانت تمازحنا وتضاحكنا أمام الباب قبل دقائق ..!
تلك المفارقة – في سلوك المعزية الباكية – أربكت عقلي الصغير كثيراً يومها، فظللت أتبعها طوال الوقت من غرفة إلى أخرى على أمل أن تعود إلى البكاء .. فأتأمل – من جديد – جسدها الفارع وهو يتلوى بتلك الرقصات التعبيرية المدهشة .. لكنها خيبت ظني تماماً .. فما أن توارت عن عيني أهل العزاء حتى أخذت زمام «الونسة» بحماسة واستمتاع شديدن.. وهي تروي القصص الطريفة وترسل الضحكات الرائقة – بنفس مطمئنة – ما بين حكاية وأخرى ..!
اليوم وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات ما تزال تلك التقلُّبات المدهشة في ملامح وجه جارتنا تلك من الضحك إلى البكاء إلى معاودة الضحك في دقائق معدودات تسكن ذاكرتي .. وكأنها لوحة سريالية داخل إطار .. أستعيد غرابتها كلما تعثرت بذات السلوك النسائي المتوارث في بيوت العزاء ..!
ومع أن الدعاء للميت بالرحمة ولذويه بالصبر أجدى وأولى من التمثيل وادعاء الحزن، مايزال مسلك النساء في بيوت البكاء السودانية لوحة ناطقة بغرابة مواقف بعض البشر الخطائين .. وما يزال منظر النساء المتأنقات .. المتزينات .. الضاحكات .. المقهقهات بعد فراغهن من نوبات البكاء الحادة – التي تلازم طقوس أداء واجب العزاء – صورة فوتوغرافية زاخرة بالانفعالات الإنسانية المتناقضة والمتلاحقة في آن معاً.!
يكفي أن تقارن بين مشهد وصف إحداهن لحالها بالسجم والرماد، بعد رحيل الفقيد – وهي تئن وتنتحب أمام أهل بيته، حتى يكثر من حولها النهي والزجر .. أن يا فلانة .. أرجعي! – وبين ضحكاتها الرائقة المسترسلة، بعد وقت قصير، وهي تجلس وسط صويحباتها الممثلات القديرات اللاتي حذون حذوها في الغالب – على مسرح العزاء – قبل أن يسبقنها في «الرجوع» إلى أرض الواقع ..!