من استمع إلى الرئيس السوداني، عمر البشير، في العام 2009، وهو يتحدث، بزهو وفخار، عن سد مروي، ويعدد منجزاته ومعجزاته، يخيل إليه أن السودان لن يعرف قطوعات الكهرباء أو شح المياه. ومن شاهده وهو يرقص، انتشاء بذلك الإنجاز تحت أنغام هتافات متصلة لأحد وزرائه المقربين،” السد .. السد .. الرد .. الرد”، لاعتقد أن السودان فعلا قد أغلق، وللأبد، بوابة أحد أسوأ الكوابيس الموسمية مع الكهرباء والماء التي تنغص حياة الشعب السوداني.
أكد الرئيس يومها أن معاناة الشعب مع الكهرباء انقضت، وأن شح المياه انتهى للأبد. وأطلق وعودا بأن الدولة ليس فقط ستشرع في إعادة النظر في خفض أسعار الكهرباء، بل البدء في تصديرها إلى دول الجوار. وبلغة الأرقام، وفقا للمنشور في وسائل الإعلام السودانية، تقول الطاقة التصميمية لسد مروي إنه يفترض أن ينتج حوالي 1600 ميغاواط، لكنه ينتج وبطاقة قصوي 1.250 ميغاواطاً، فيما ينتج اليوم، أي وسط موسم هطول الأمطار، حوالي 850 – 900 ميغاواط. والطاقة الاستهلاكية المقدرة للسودان من الكهرباء تبلغ حوالي 2650 ميغاواطاً، بعجز كبير في الكهرباء يبلغ حوالي 850 ميغاواطاً، وهو ما يعتقد أنه وراء الأزمات المتكررة.
معاناة السودانيين مع خدمات الكهرباء والمياه تاريخية بكل معنى الكلمة. كانت في السابق تدرس، وثابتة في المنهج المدرسي، ويحفظ الطلاب، وفقا للمنهج الدراسي القديم، معاناة مدينة الأبيض عروس الرمال في الغرب من مشكلة المياه صيفاً، وتعاني بورتسودان ميناء السودان البحري على البحر الأحمر من المشكلة نفسها، وتعاني مدن أخرى، كالقضارف (أكبر أسواق الذرة الرفيعة في السودان) من مشكلة العطش. ويجمع بين كل المدن السودانية معاناتها المزمنة مع المياه. والمفارقة أن من تربى على هذه المناهج المدرسية يقترب معظمهم اليوم من سن الستين، ولا تزال المشكلات نفسها تسبب الأرق نفسه لهم، والذي عايشوه أطفالا في المدن نفسها.
أعود إلى أصل الحكاية، فلم تمر سوى بضعة أشهر قليلة، بعد افتتاح السد، حتى عادت الكهرباء إلى عهدها من قطوعات متكررة. وقد لفت نظري، في شهر مايو/أيار الماضي، اهتمام وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) بنشر خبر عن انقطاع الكهرباء، يقول “انقطعت الكهرباء مساء اليوم (الاثنين) لأول مرة في معظم مناطق السودان”. وفيه أيضا “ففي توقيت موحد عند الساعة – 21:00 بتوقيت غرينتش – خرجت منظومة الطاقة الكهربائية عن الخدمة في معظم مدن السودان”. ونقلت الوكالة في الخبر تأكيد مواطنين سودانيين “انقطاع التيار الكهربائي، ما أحدث شللا تاما” في هذه الولايات. ما سبب هذا الاهتمام الصيني المحير بانقطاع الكهرباء، وهو أمر بات من كثرة تكراره عاديا، بل هو أحد أهم مسببات حالات الفرح (المؤقت) النادرة لدى قطاعات الشعب السوداني عقوداً. اهتمام صحفي صيني غير عادي يثير الفضول، غير أنه يعزز قناعةً بأن الصين باتت تهتم بأمر السودان وأحواله بأكثر مما تفعل حكومته. بالطبع، وقتها دار لغط كثير حول أسباب القطع الكهربائي، وارتبط معظم الحديث بانفجار جرى في مولدات الطاقة في سد مروي. وعلى الرغم من أن السلطات الحكومية، كعادتها، وعدت بأنها سوف تنشر الأسباب، لكنها لم تفعل، وهي في الواقع معذورة، لأن مثل هذا التوضيح سيتكرر كثيراً، بكثرة القطوعات وقطوعاتها.
“عطش السودانيون صيفاً، ويغرقون في مياه الأمطار خريفا.. مفارقة تختزل فشلاً حكومياً، لا يحتاج إلى دليل، فموارد البلد الطبيعية لا تجد من يديرها، ولا يبدو أن المواطن السوداني ينتظر شيئاً غير ما تجود به الطبيعة”
من يرَ الصور التي تداولتها وكالات الأنباء ومحطات التلفزة العالمية عن مركبات تجرّها الحمير والبغال تجوب أحياء العاصمة، وتبيع المياه يشعر بالصدمة العميقة. شيء لا يصدق. هل يعقل أن يشكو أهل الخرطوم، أرض النيلين، من العطش؟ من يصدق أن هذه الحالة ليست طارئة، بل باتت أمرا مألوفا في مدن أخرى، على الشريط النيلي شمالاً، أو جنوب الخرطوم، عدا عن المياه غير الصحية أصلاً، والتي لا تصلح للاستخدام الآدمي محمرة بلون الطمي. ومعضلة الكهرباء والمياه تاريخية لمدن كبرى في السودان، شرقا وغربا وشمالا (الجنوب راح). الأسباب في هذا التردي قطعا هي مزيج يبدأ من كارثة الصالح العام الذي أحالت، بموجبه، جماعة الإخوان المسلمين في السودان، بمسماها وقتها (الجبهة الإسلامية) حتى ساعة الانقلاب العسكري، ملايين السودانيين من العاملين في قطاع الدولة للصالح العام، بمن فيهم الخبرات التي لا تزال تعاني من فقدانها مرافق الكهرباء والماء في كل أنحاء السودان. جرى ذلك وقتها وفقا لسياسة التمكين التي قدمت الانتماء للحركة على الكفاءة فوقعت الكارثة.
ومن الأسباب فوضى التجريب الذي هو سياسة شائعة منذ الانقلاب العسكري عام 1989، فدمج وزارة الري مع إدارة الكهرباء جمع بين مهمتين مختلفتين. والفساد الظاهر، هنا، أنه، وبدلاً من توفير خدمات الكهرباء والمياه من المنفّذ التاريخي، الشبكة القومية للكهرباء والمياه، أصبحت هنالك مجموعة من شركات الكهرباء تتنافس في سلب موارد المواطن من الدخل، ومعه نصيبه من الموارد، كهرباء ومياه. ويزيد هذا من أعباء المعيشة، ويخنق المواطن السوداني، مرة بغياب الخدمة نفسها، ومرة بارتفاع أسعارها وبدرجة باتت تضغط على كل الفئات في المجتمع. علماً أن الري كوزارة تاريخيا كانت منفصلة، وتعنى بكل ماله علاقة بالسدود والزراعة والجوانب الفنية المتعلقة بها، فيما كانت الكهرباء تابعة لوزارة الطاقة. ثالث الأسباب وجذر المشكلة، وهو الفساد المستفحل في كل مفاصل الدولة، والذي ضرب، بطبيعة الحال، هذا القطاع الحيوي والمهم. وأحد أوجه الفساد الأموال الطائلة التي تحصلها الحكومة من المواطنين، برفعها تعرفة المياه والكهرباء، وبدلا من أن تذهب إلى تحسين هذه الخدمة والارتقاء بها وخفض أسعارها، فهي تذهب لمقابلة الفساد، الظاهر منه الجيش الجرار من الموظفين والمباني والعقارات الضخمة، وغالبها لا أحد يعرف أوجه صرفه، في ظل تردٍّ مخيف في الخدمتين معا.
وكعادة الحكومات المتعاقبة في السودان، يجري البحث عن حلول وقتية آنية، وترك جذر المشكلة للزمن. وتستمر معاناة الناس بلا تغيير، أو كما قال يوماً الشاعر أبو آمنة حامد، وقد عاد بعد طول غياب في توصيف الصورة: الحزانى في الشمال والجوعى في الشرق والعطشى في الغرب والعراة في الجنوب. صورة أمر تغييرها يسير، لو أن من في الحكم تذكّروا، وهم في عليائهم وقصورهم، أنهم قد ولدوا عطشى، وبين نيليْن.
يعطش السودانيون صيفاً، ويغرقون في مياه الأمطار خريفا.. مفارقة تختزل فشلاً حكومياً، لا يحتاج إلى دليل، فموارد البلد الطبيعية لا تجد من يديرها، ولا يبدو أن المواطن السوداني ينتظر شيئاً غير ما تجود به الطبيعة.
طارق الشيخ – العربي الجديد