العودة إلى المتاعس «1»

حباني الله بخصلة جميلة أشكره عليها، وهي أنني أفرح إذا نال شخص أعرفه ترقية أو مكافأة مجزية، ورغم أن عيالي الأربعة أكملوا تعليمهم إلا أنني أفرح بالإجازات المدرسية خاصة الصيفية لأن صغارا وشبابا كثيرين سيرتاحون من عناء الواجبات المدرسية والاختبارات، والاستيقاظ المبكر بعد النوم المبكر
ولهذا أحس بالضيق مع بداية كل عام دراسي، لأنه يأتي مسببا التوتر والقلق لملايين العائلات، ورغم أنني لا التفت إلى الإعلانات التجارية التي تنشرها الصحف عادة، لأن التجربة علمتني أنها في معظمها تضليلية، إلا أن إعلانات «العودة إلى المدارس»، فرضت نفسها عليَّ كل يوم، منذ منتصف أغسطس المنصرم
حتى المطاعم تخوض معركة بدء العام الدراسي الجديد بإعلانات من شاكلة: قلم رصاص مجاني مع كل سندويتش فلافل.. كبون سحب على موبايل كروديا مع كل طبق حمص، وهذه الإعلانات تسبب لي الاكتئاب وتذكرني ببؤس نظامنا التعليمي، الذي يحتفي بالمظاهر والقشور (تجليد الدفاتر بطريقة معينة، وتغليف كتاب كل مادة بورق ذي لون معين حسب مزاج المعلم، وهذا اللون من السخف متفش على نحو وبائي في مدارس البنات: مدرسة الرياضيات تفضل الأغلفة الحمراء ومعلمة اللغة العربية رومانسية وتريد لكتب ودفاتر تلك المادة أن تكون «زرق سماوي»، بينما مدرسة العلوم تفضل اللون التركواز.
وبما أن التباهي والتفاخر صار سمة لحياتنا اليومية فإن مستلزمات العام الدراسي الجديد مجال كبير لاستعراض كل عائلة لإمكاناتها وقدراتها المادية، بدرجة أنه بات من المألوف أن تسمع تلميذة تقول: عيب أروح المدرسة بنفس شنطة العام الفائت.. بس يا بنتي اشترينا تلك الشنطة مع نهاية العام بإصرار منك!.. ولو.. أين «أودَّي» وجهي إذا شافوني بقية البنات بشنطة موديلها قديم؟
حتى عيال الروضة والحضانة لهم مواصفات معينة للحقيبة المدرسية: هذه تريد واحدة عليها صورة باربي وذاك يريدها بصورة سكوبي دوو! وهناك المقلمة أي العلبة التي توضع فيها الأقلام.. والأقلام نفسها أشكال وألوان وبعضها يفتح النفس أو تحسب أنه قطعة حلوى
في المرحلة الابتدائية كانت حقيبتي المدرسية «كيس مخدة» قديم صنعت له أمي حمالة كي أستطيع تعليقها على كتفي.. ولم نكن بحاجة إلى مقلمة لأن كل واحد من كان يملك قلماً واحداً وبالتحديد قلم الرصاص.. ولم تكن هناك برايات لسن الأقلام بل كنا نستخدم أمواس الحلاقة في تلك العملية، وأذكر أن أبي كان يملك علبة مقاساتها نحو 20 في 15 سنتمتر يحتفظ فيها بعدة الحلاقة، ولم أره طوال حياته يرمي بموس، بمعنى أن يتخلص منها، وهكذا كانت تلك العلبة تحوي أمواساً عمرها عشر سنوات ولا تصلح حتى لقطع رقبة نملة، ولكن جيل آبائنا وأمهاتنا لم يكن لديهم ما يرمونه في القمامة فكل شيء – حتى العلب الفارغة – كان يصلح لغرض أو آخر.
وبداية العام الدراسي تصيبني بالاكتئاب لأن قلبي على الصغار الذين سيتعرضون لملاحظات من قبيل أسكت يا حمار.. أين كنت يا غبي؟.. أجب على السؤال يا ثور.. وقد اعترفت أكثر من مرة بأنني لا أعرف من علم الحساب والرياضيات سوى «جدول عشرة» وكرهت الرياضيات وأنا في الصف الثاني من المدرسة المتوسطة فقد كان مدرس تلك المادة مزوداً بلسان يقطر سماً ويكتب على دفاترنا ملاحظات مهينة ويتحين الفرص لضربنا بقسوة ولكن كلامه كان أقسى من ضرباته.. والله العظيم كتب مرة في دفتر تلميذ زميلي «ما هذا يا لطخ» وكان ذلك بسبب بقعة من الخبر على الورقة التي تضمنت حل بعض «المسائل». إلى يومنا هذا لا أعرف معنى كلمة لطخ ولكننا جميعاً ندرك أنها جارحة تماماً مثل كلمة «خرنق» التي بعد أن جاءت على لسان عادل إمام في «شاهد ما شافش حاجة».

jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version