كان مثيرا أن تصمت يوغندا طوال يوم ونيف.. دون أن تفصح عن فقدان مروحية روسية الصنع وعلى متنها شخصية دستورية مرموقة ومن دولة مجاورة.. أما الأكثر إثارة فكانت تلك المبادرة التي أطلقها الرئيس اليوغندي يوري موسفيني داعيا دول إيقاد ودول شرق أفريقيا من خارج الإيقاد إلى لقاء يعقد في كمبالا.. ولكن عنوانه الرئيس بحث مستقبل جنوب السودان بعد غياب قرنق.. مبعث الإثارة أن دم قرنق لم يكن قد جف بعد.. والأدهى من ذلك أن السودان الذي كان جنوب السودان جزءا لا يتجزأ منه لم يستشر.. بل ولم يخطر حتى.. وبالضرورة لم توجه له الدعوة..!
هذا فصل واحد من فصول علاقة موسفيني مع السودان.. أما الفصل الأكثر إثارة فكان ذلك الذي أعلن فيه مسؤول يوغندي مقرب من موسفيني.. ودون مقدمات.. رغبة بلاده في المساعدة في إحلال السلام في السودان.. ثم يضيف المسؤول اليوغندي.. أن بلاده تستضيف الحركات المسلحة المناوئة للحكومة السودانية.. بغرض التأثير عليها.. وإقناعها ودفعها لعملية السلام.. كان التصريح منطقيا.. وهو أولا كان اعترافا نادرا من نوعه باستضافة بلاده لتلك الفصائل المسلحة.. ولكنه اعتراف مصحوب بحيثيات تنفي سوء النية في تلك الاستضافة.. بل وتؤكد أن تلك الاستضافة إنما كان هدفها عمل خير يبتغي وجه الله لا غير.. وتباينت ردود فعل الحكومة السودانية وذهبت.. كالعادة.. مشارب شتى.. فحكومتنا رغم أنها برأس واحد والحمد لله.. إلا أنها بألف لسان.. ويمكن لكل لسان أن يقطع الآخر.. لا يقاطعه فحسب.. كانت التصريحات اليوغندية.. يومئذ.. مناسبة لاستعراض بعض من تلك الألسنة الحكومية المتناقضة..! غير أن أكبر عيب شاب ذلك الموقف اليوغندي.. هو أنه بالنسبة للمراجع العليا في الدولة.. وهي عادة لا تشارك في ماراثون الألسنة.. أن الموقف اليوغندي ذاك لم يكن يعدو أن يكون مجرد مسرحية سيئة الإخراج.. وأسوأ من ذلك أن مسرحا آخر كان قد شهد عرضا مماثلا وماسخا..!
يومها قال لي مسؤول كبير.. ونحن نناقش الموقف اليوغندي.. أو شخصية موسفيني تحديدا.. وما ظننت أنا يومها أنه انقلاب في الموقف اليوغندي.. كان بالنسبة لمحدثي غير ذلك.. قال لي.. لقد جربنا مثل هذا الحديث من قبل.. تحديدا من العقيد القذافي.. ظل القذافي باستمرار يفتح أبوابه وخزائنه.. على كل خارج على نظام الخرطوم.. غض النظر عن توجهه أو موقفه أو ثقله.. ثم كان يقول لنا حين نسأله.. يقول محدثي.. إنني افعل ذلك حتى أستطيع في الوقت المناسب أن أجرهم إلى السلام.. ثم يضيف محدثي.. حتى سقط نظام القذافي.. وسقط القذافي نفسه.. لم يأت ذلك الوقت المناسب قط.. ويختتم محدثي يومها.. موسفيني الذي ظل النشاط القذافي يؤرق مضجعه.. لربما قرر أن يرثه بحسناته وسيئاته.. وحتى بألاعيبه.. ولا شيء غير ذلك..!
ثم جرت مياه كثيرة تحت جسور الإقليم.. وانفجر جنوب السودان.. ووجد موسفيني نفسه خائضا في وحل الجنوب.. يكاد يغرق.. ثم يوري في الخرطوم.. وهو ما زال يبحث عن دور.. ولم يفقد روح المغامرة..!