نشتكي في بلداننا من الأجيال الجديدة وعدم احترامها للسلطات المتخللة لشبكة المجتمع، سلطات الأب، المعلم، الطبيب، رجل الشرطة. ولكن تبين من وجودي في الغرب أنهم هنا يعانون من ذات المشكلة. غياب احترام هذه السلطات. قبل يومين دخل رجل قسم الشرطة ووجَّه عدة لكمات لرجل الشرطة المناوب لحظتها. حتى بداية الثمانينيات لم يكن أحد ليجرؤ على الدخول في نقاش مع رجل شرطة الذي كانت كلمته نافذة ولا تقبل الجدال. قبل سنوات أيضا عندما بدأت دراسة علم الاجتماع في كلية (فونتيس) لم يكن أحد من الطلاب ينادي الدكاترة بلقب دكتور أو بروف حسب المرتبة الأكاديمية. كان الأساتذة عندهم مجرد: بيتر، كارين، ابراهام.
أرجع المحلل النفسي البلجيكي (بول فيرهاخا) هذه الظاهرة لغياب السلطة داخل المجتمع. الملاحظ أنه ومنذ الستينيات، سنوات انتفاضة الطلاب والتحرر الجنسي، والجميع يعمل على هدم بنى السلطة إلى أن انهارت تماما. فأصبح الآباء يتهمون الأساتذة بأنهم لا يتحلون بالحزم اللازم في التعامل مع أبنائهم. والأساتذة يتهمون الآباء بأنهم لا يربون أولادهم بشكل جيد.
قد يحاول الناس فرادى إظهار بعض مظاهر السلطة، ولكن شكلهم وسلوكهم سيكون مثيراً للسخرية أكثر من الاحترام. يقول بول فيرهاخا مستشهداً بالفيلسوفة (حنا أرندت) التي شرحت موضوع السلطة والقوة في ثلاثينيات القرن الماضي، ووضعت للأمر تعريفاً وشرحاً ما زال الكثير من الباحثين يعتمدون عليها، (يقول) إن طريقة عمل السلطة تتطلب أن يذعن طرف لطرف ثان عن طريق طرف ثالث. مثلاً إن أشار لك الشرطي بالتوقف أثناء قيادتك ستتوقف، وإن أخبرك بأنك قد ارتكبت مخالفة ما، فستتقبل أن يحرر لك الغرامة المناسبة. إذعانك له هنا هو عن طريق الطرف الثالث الذي يمثل القانون وقواعد المرور التي تتفقان كلاكما عليها.
المشكلة أن مسيرة التحرر الطويلة من سلطة المعلم والمؤسسات الدينية والبنى الاجتماعية التقليدية، قد أخلت بالطرف الثالث الذي يتفق عليه الناس، وأصبح كل منا حراً في مجتمع يقدس الحريات الفردية، ويجعل الفرد مرجعية في سلوكه الشخصي، وفي وجوده في الفضاء العام
الشيء الخطير الذي أشار له فيرهاخا أن البنى الهرمية لهذه السلطة قد بقيت بعد زوالها، ويتم استخدامها في تشكيل نوع من القوة الطاغية أو الطغيان السياسي. الساسة الذي يتخذون بعض القرارات الكارثية دون أن يحسبوا حسابا للمواطن. في مقاطعة (خرونيغن) بشمال هولندا ظلت الدولة تستخرج الغاز بكميات كبيرة مما أدى لحدوث زلازل صغيرة أضرت بالمباني والمساكن لعقود من الزمن، الأمر الذي كان يشكل خطراً حقيقياً على حياة الناس، كما أنه أدى لتدني أسعارها في النهاية لدرجة اضطرت معها الدولة لدفع تعويضات للجميع . كل ذلك والساسة يعلمون بهذه المخاطر ولكنهم يديرون الدولة بطريقة إدارة المتاجر، حيث يلعب الاقتصاد الدور الأكبر.
إبراهيم حمودة
صحفي سوداني مقيم بهولندا