مثل معظم الآباء والأمهات فإنني أعتقد أن عيالي حسنو التربية وذوو أدب جم، (لا يمكن أن يحدثك شخص عن عياله الذين في المدارس إلا وكانوا في الخمسة الأوائل، أو كان متفوقا طوال مسيرته التعليمية بس «صادته عين» وها المرة طلع ترتيبه 23)، وبالمقابل يعتبر معظمنا عيال بقية خلق الله على أنهم على درجة عالية من سوء الأدب وقلة الحياء.
ومع هذا فإنني أتساءل ليل نهار ما إذا كان أسلوبي في التربية، الذي ورثته عن الأسلاف صحيحا، رغم أنه يعود إلى زمن كان فيه الآباء والأمهات يحسبون أن فرويد اسم مركز في كرة القدم، وكل ما في الأمر هو أنني نشأت على ما كان عليه آبائي وأهلي، ثم اكتشفت لاحقاً أن الكثير من أساليب تعاملهم معنا كأطفال كانت خاطئة بل وقاسية في أحيان كثيرة: مثلاً لم يكن مسموحاً لنا تناول الطعام مع الكبار من الرجال على صينية واحدة، ولم يكونوا يدلعوننا بأي درجة، مع أن النفس البشرية تحب الدلع، وكاذب أي شخص من أبناء جيلي في السودان يزعم أن أباه طبع بوسة على رأسه أو خده.
ومازلت إلى يومي هذا أحس بأنني فاقد دلع وحنان، فأميل أحيانا إلى تدليع نفسي، وهكذا صرت «أبو الجعافر» بقرار شخصي، وصرت أحيانا أدلع عيالي ثم اخجل و«استعر» منهم، ثم تثور دمائي النوبية الأفريقية فأنقلب إلى فك مفترس ولا أقبل أن يناقشني عيالي في أي أمر أو أن يعصوا لي أمراً. يسألونني: ولماذا نفعل أو لا نفعل هذا الشيء أو ذاك؟ فأقول لهم: لأنني قررت وقلت ذلك (الاستثناء الوحيد والدائم هو ابنتي مروة التي لا يجدي معها هر أو صياح ولا تتردد إن قلت لها أن تسمع كلامي بلا نقاش وأن تنفذ أوامري بلا جدال، في أن تقول لي في وجهي: حاضر يا جعفر نميري..).
وهكذا جعلتني مروة أنصار تحديد النسل، وبعد أن قضيت شهوراً طويلة أعلمها المشي والكلام أصبحت أبحث عن وسيلة تعلمها الصمت والسكون، وكنت قادراً على ذلك عندما كان عمرها نحو سنة واحدة بأن أهدهدها حتى أهد حيلها فتنام فتقول لي أمها التي هي في الوقت نفسه زوجتي الوحيدة (يا للخيبة): لماذا ترغمها على النوم؟ فأقول لها إن نوم الظالم عبادة، وعموماً فإنه مهما كان الطفل جميلاً ووديعاً فإن والديه يسعدان بنومه، ولكن وإنصافاً لمروة فقد تعلمت منها أشياء كثيرة مفيدة ومنها أن جهاز الفيديو في إتش إس الذي راح فيها، يصلح لإخفاء شرائح الخبز إذا كان السندويتش غير مرغوب فيه، وأن القول إن البنات جنس لطيف أو ناعم أكذوبة كبرى، وأنه من الأسلم تفقد الفرن والتأكد من خلوه من لعب الأطفال قبل إشعال النار فيه، كما تعلمت من مروة أن القطط تصاب بالدوخة والزغللة إذا وضعتها داخل غسالة ملابس كهربائية.
الغريب في أمر مروة هذه والتي بسببها درست عدة نظريات في التربية واكتشفت عدم صلاحيتها للتطبيق – أنها كانت في طفولتها، وفي كل مرة تقرر فيها زوجتي الوحيدة السفر إلى السودان مع عيالنا، تصر (مروة) على البقاء معي: لا يمكن نخلي بابا لوحده،.. يا حبيبتي، من أين أتتك كل تلك الحنية؟ ولأن من يرغم مروة على تغيير رأيها لم يولد بعد، فإنها تبقى معي وترغمني على أخذ إجازة ثم السفر بها إلى جهة أخرى غير السودان، ولكنها وبصفة عامة تكون رقيقة إلى حد ما طالما أنا وهي بمفردنا بل وتقوم بالتدرب على أعمال الكوافير على رأسي الذي شاب بسببها.