“ربتنا حبوبة ووصتنا بالسترة” بفرك البامية و”أورِّق” الخدرة والصاج يولع نار أعوس طبق كسرة

كانت أشعة شمس الظهيرة تنفذ من خلال شرفات الحجرة الواسعة، بحيث يمكنك أن ترى بوضوح ذرات الغبار داخلها، وبقدر ما يمتد البصر لا ترى ما يلوذ بالعينين من زخم أثاثات مكدسة بعضها فوق بعض.
كل ما تراه صفاً متناسقاً من الأسرّة وخزانة قابعة في ركن الحجرة تُحفظ فيها أثمن المقتنيات، ربما القديم من الصحف التي رتبت بعناية وحذر على سطحها، كنت أجلس دائماً بجانبها، وعادة يوقظني من غفوة اللهو صوت يناديني بإيماءة هادئة مضمونها أن أطلب ما أريد.
حيرة في الاختيار
تنتابني الحيرة في الاختيار، وتكرر ما قالته، وهي عاقدة ذراعيها بطريقة تؤكد فيها إجابة مطالبي دون تردد، ولا غرابة في ذلك، ما دامت تمتلك قلباً كبيراً، افعل كل ما أريد ولا تدع أحداً يسائلني فقط يمكن أن تحبسني من مرقدي بجوارها خشية من ظلمات الليل وما تلفظه الأرض من باطنها في الظلام تضع يدها على رأسي، وتتمتم بكلمات كنت لا أفهم منها غير بسم الله، وعندما يلج الصباح أذهب معها إلى المزرعة الخضراء التي يبدو منظرها أخاذاً، ألهو هنا وهناك بينهم، والعمال يعملون كادحين بتوجيهات صارمة من جدي، وتأتي حبوبة الحنينة مشجعة وداعية لهم بالتوفيق.
قامة تربوية
وجود الحبوبة في الأسرة بصفتها القامة التربوية، لإلمامها بحزمة من التجارب في هذا الصدد، ولكن مع تسارع وتيرة الحياة انحسر دورها في مشاركة أولادها تربية أبنائهم، لذلك هناك من يعتقد بأن أفكار الحبوبات ولَّى عهدها، ومن جهة أخرى أصبحت الحبوبات عاملات، وليس لديهن وقت.
وابتدرت الطبيبة د.آسيا فرح حديثها عن مشاركة الحبوبة تربية أحفادها، وقالت: “في تقديري لا يوجد ألطف وأحن من الحبوبة، ولكن أحياناً دلالها الزائد يجعل الطفل عنيداً”. وأضافت د. فرح: بالمقابل يمكن أن يكون الطفل واثقاً من نفسه لإعطائه الحرية الكاملة، ويتوقف هذا على طبيعة شخصيته. وأردفت: علينا جميعاً في الأسرة الممتدة أن نعي أساسيات التربية الصحيحة وغير المعقدة، حتى نخرج جيلاً متصالحاً مع نفسه، وبالتالي مع من حوله.
مناغمات جيلين
تجلس على مقعد تحت الشجرة التي أمام المنزل في أحد أحياء الخرطوم شرق.. تزيّن خدودها شلوخ تزيدها وقاراً واحتفاءً بموروثها.. ساقتني إليها الخطى دونما قصد، ربما لولائي الخاص لحبوبتي رحمة الله عليها، تجاذبت معها حديثاً لطيفاً.. (ناغمتني) بلغتهن الحنينة: (اتفضلي يا بتي)، أبديت إعجابي الشديد بشلوخها، وسألتها عن جلوسها أمام المنزل.
زينة فوق زينة
أجابت: “الشلوخ ديل للزينة، وزمان كان بغنوا ليهم.. ولكن جيلكن ده دايرين الوشوش دي مملسة.. الموية ما تقيف فيها” على حد تعبيرها. وأضافت: “لكل جيل يعيش زمنه”.. وتتابع “سألتيني عن قعادي برة يا بتي، البيوت المقفَّلة ما بدور أقعد فيها طول اليوم.. والناس جوه ذاتها ما فاضية.. كل زول مكب في موبايلو (قصدها وسائل التواصل الاجتماعي)”.. وختمت: “أحسن لي أشم هواء الله برة، وكل مرة يجي زول يونسني زيك كده” قالتها وحب ابنها يغلب عليها: “لو مارضايا لولدي ما كنت قعدت معاهم في السجن ده يوم واحد”.. سألتها “أنتِ ضيفة يعني دي ما حلتك علشان كده زهجانة؟ أجابت “بري ما حلتي، وبإذن الله مضحية في بيتي ومع جيراني وحبايبي”.
مدلل وأناني
في مجرى حديث الحبوبة وما يترتب على مشاركتها تربية أحفادها، يقول الدكتور نصر الدين الدومة، رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية: إن الابن الذي تربيه جدته يمكن أن يكون مدللاً وأنانياً، بمعنى تعوده على إجابة جميع طلباته. وأضاف: أيضاً يمكن أن يكون مسؤولاً، لأنه يخدم حبوبته، وهذا يعلمه المسؤولية، كما وأنه يتصف بالعطف. وأكد د. نصر الدين أن أغلب تربية الحبوبات إيجابية، وبالمقابل بعضهن تربيتهن سالبة، ويرجع ذلك إلى نمط التربية، مثل الدلع الحماية الزائدة والاتكالية.

اليوم التالي

Exit mobile version