> يمكن أن يكون أفضل عالم في العالم أميّاً لا يجيد الكتابة والقراءة.. ويمكن أن يكون أجهل جاهل في العالم صاحب خط جميل في الكتابة ويستطيع أن يقرأ ما يجده مكتوباً، ولا نريد هنا أن نربط هذا بالمثل القائل «كل خطاط جهول» وهو مثل ليس منتشراً.. فيعرفه القليل جداً من أجيال سابقة وقد لا يعرفه حتى أقل منهم في الأجيال الجديدة.
> وفي مؤتمر محو الأمية الذي رعته واستضافته وزارة التربية الاتحادية بقيادة الوزيرة سعاد عبدالرازق وشرفه النائب الأول للرئيس بكري حسن صالح أمس، كان عرض الجهود الرسمية والشعبية لمشروع محو الأمية.. وهو مشروع عظيم وكان يمكن أن تقوم به اللجان الشعبية في الأحياء السكنية وفي القرى.
> فيكون الجهد الشعبي تحت إشراف هذه اللجان والتي يرى البعض أنها ما قتلت ذبابة أو بعوضة للإسهام في مكافحة الملاريا يكون الجهد الشعبي موجهاً لمحو الأمية.. وأن تكون الجهود الحكومية التي أشار إليها النائب الأول بالتكرار تكون موجهة للمرحلة الأخرى مرحلة ما بعد محو الأمية مرحلة التعليم المهني والحرفي والإرشادي.
> فمحو الأمية ليس هدفاً في حد ذاته ما دامت الأمة ليست جاهلة.. وإنما وسيلة للتعلّم واكتساب المعرفة بطريقة أفضل.. والإنسان إذا جعله الله كفيفاً منذ ولادته أو منذ طفولته فهذا لا يعني أنه قد حُرم من العلم.. فيمكن أن يكون عالماً نحريراً يعلّم الناس في قاعات الجامعات وفي كليات الدراسات العليا لأنه اكتسب المعرفة بوسيلة أخرى غير وسيلة معرفة الكتابة والقراءة.
> إذن بهذا الفهم علينا أولاً أن نثبت أن «الأمية» لا تعني الحرمان من التعلّم والفهم.. لكن يمكن بها يستوعب العلّم والمعرفة. وحتى الكتابة قد تطورت طريقتها منذ أن اخترع الإنسان ماكينة «التايبست» ثم كيبورت الأجهزة الحاسوبية.. فبدلاً من أن تستمر بثلاثة أصابع تمسك بالقلم أصبحت كذلك باللمس بأنملة أصبع واحد وأصبحت الحروف معدّة أمام الكاتب.
> لكن نقول لابد في عصرنا هذا لمحو الأمية لاستسهال التعلم والمعرفة.. وأن كل الجهود المبذولة في هذا الاتجاه تبقى ضرورية.. لكن يبقى السؤال: ماذا بعد محو الأمية؟ هل هو غاية في حد ذاته؟! وهل أعدّ القائمون على أمر مشروع محو الأمية مشروعاً آخر مصاحباً لينتقل من تعلّم القراءة والكتابة إلى تعلم العلوم الدنيوية والشرعية؟!
> والملاحظ أن في افتتاح مؤتمر أو ورشة حول مشروع محو الأمية الملاحظ هو أن المتحدثين يوحون في بعض أحاديثهم بأن «الأمية» جهل مطلق وليست جهلاً بالكتابة والقراءة فقط. والنبي الأمي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، لم يكن يقرأ أو يكتب لكنه لم يكن جاهلاً.
> وحينما نزل عليه الوحي أوّل مرة وأخذ أمين الوحي يقول له: «اقرأ».. كان يرد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لست بقارئ» وفيما بعد كان كاتب الوحي هو سيدنا معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه.. وكان جامع المصحف ابن عمه ـ أي سيدنا معاوية ـ سيدنا عثمان ابن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وطبعاً دخل الإسلام إلى السودان بحدوده الحالية في عهد سيدنا عثمان.
> إذن (الأمية) ليست جهلاً مطلقاً حتى يقابلها العلم بإطلاقه.. فهي فقط عدم معرفة القراءة والكتابة للغة التي يتحدّثها الإنسان.. وأنت في اللغة الصينية مثلاً أو اللاتينية تبقى أمياً حتى ولو كنت معلماً للغة العربية ولم تعرف قراءة وكتابة تلك اللغات.
> فأنت لا تعرف أن تقرأ حروف اللغة الصينية مثلاً اذا لم تدرسها.. وإذا قدّم إليك كتاب مكتوب باللغة الصينية التي لا تعرفها أو الأردية أو الأمهرية اذا كنت ايضاً لا تعرفه.. فردك هو : لست بقارئ.. إذن أنت أمي في تلك اللغات حتى ولو كنت معلماً للغة العربية ومعها الإنجليزية. فهل ستُصنف في هذه الحالة جاهلاً؟ طبعاً كلا.
> قصدت بهذا في مناسبة رعاية وزارة التعليم الاتحادية لمشروع محو الأمية مع منسقية الخدمة الوطنية ألا ننظر إلى آبائنا وأجدادنا الذين «ليسوا بقارئين» باعتبارهم جهلاء لا نحتاجهم في التوجيه والإرشاد والتربية، فيمكن أن يكونوا أصحاب علم ومعرفة وإرشاد ودعوة إلى الله حتى ولو كانوا ليسوا بقارئين.
غداً نلتقي بإذن الله.