منى عبدالفتاح : «إنه العصر يغطي عريه»

أكاد أجزم أنّ الشاعر السوداني الراحل محمد مفتاح الفيتوري عندما كتب قصيدته «طفل الحجارة» لم تكن لأطفال فلسطين وحدهم، فعشنا هذا الزمن ورأينا عجبا بأن تجسّد أطفال الحجارة في كل بقعة منتهكة، لا بالمجنزرات الإسرائيلية ولكن بأيدي من هم على نفس الدين والجنس والملة.
رأينا كيف يُستنسخ أطفال الحجارة ويولد غيرهم كثيرون ليعانوا نفس المرارات.
أطفال كُثرٌ في سوريا والعراق ودارفور، ورجالٌ استحالوا من فرط الهوان إلى أطفال بلا حول ولا قوة حتى ليرفعوا حجرا في وجه عدو غاشم.
صور كثيرة من خضم الحرب السورية تهز المشاعر، وتتدفق لها المآقي.
وإنّه لمن الطبيعي أن تؤثّر فينا صور الجرحى والقتلى والأطفال الذين يشقّ صراخهم عنان السماء، والنساء الثكلى اللائي ما وجدن غير الأرض لتحتوي انهيارهن وشكواهن.
كلّ هذا رغم كثرته ورغم أنّ الإعلام من حيث يدري ولا يدري، لعب دورا كبيرا في أن يجعل هذه الصور وأحداثها من ضمن وجبات الحياة العادية وروتين يومي لا تُخطئه العين حتى لو تعمدت الهروب من أمام الشاشات أجمعها.
استحال كل ذلك إلى روتين تعوّد عليه الناس بالرغم من كثير من الآلام.
وإذا كان هذا الزخم المأساوي يتم توزيعه بشكل يومي ليدرّب الناس على هزّ المشاعر وزعزعة الدموع لتنهمر جداول، فإنّ ما تم تخصيصه اليوم لذات الغرض كان الأكثر زلزلة لمشاعر الحجر.
ما أبكاني فعلا وأبكى الملايين غيري هو صورة الفلسطيني السوري عبدالحليم، بائع الأقلام الزرقاء الذي غادر مخيم اليرموك بدمشق منذ ثلاث سنوات لاجئا إلى لبنان.
ومنذ ذلك الوقت وهو يعول طفليه من العائد اليسير من البيع في الشوارع.
ليس منظر البؤس وحده والحاجة والفاقة ونظرة ابنته الشاحبة التي تنبئ ملامحها عن حاجتها للغذاء والدواء والراحة، وليس الهمّ والحزن وحدهما ما ينطقان بما حملته ملامح الرجل النحيلة.
ولكن من وراء نظرة هذا الرجل يقفز صمت يعبّر بشكل بليغ عن حالة يمتزج فيها الهوان بالمسكنة.
يا الله على قهر الرجال، ويلات الحرب عظيمة وكثيرة ولكن انكسار النفس أعظم، وأشد غورا.
هذه النظرة هي التي جذبت الآيسلندي جيسر سيمونارسون وجعلته يقوم بحملة من على صفحات التواصل الاجتماعي لجمع تبرعات لهذا الفلسطيني السوري، الذي لم يمكث حتى يزول الأسد ولا انتظر الإعانة في المخيم للغذاء، ولا غالبت نفسه الراحة وبلده مكلوم، فراح يعمل حسبما تيسّر له في مثل ظروفه.
أقلام يسيرة لو باع منها عشرة في اليوم لن يجني ما يسدّ رمقه وابنته التي على كتفه.
بعد انتشار هذه الصورة وفيها ما فيها من تفاصيل، بادر جيسر سيمونارسون لإطلاق حملة «اشتروا الأقلام» #BuyPens لجمع التبرعات لعبدالحليم.
كان هدف الحملة جمع 5 آلاف دولار، ولكن فاق التعاطف معه كل التوقعات، واستطاعت الحملة أن تجمع قرابة 15 ألف دولار بعد 3 ساعات على إطلاقها، وأكثر من 72 ألف دولار خلال يوم واحد، وتجاوزت بعدها حاجز الـ113 ألف دولار قدمها أكثر من 3 آلاف متبرع من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمملكة العربية السعودية والإمارات.
وبعد كل ذلك بلغ الرجل من الزهد مبلغا عظيما، فبعد أن تم إخباره بالمبلغ الضخم الذي تم التبرع به إليه، عبّر عن استعداده لمساعدة إخوته السوريين.
لم يبالغ الفيتوري حينما عزف على مفردات الضيم الإنساني أبياتا شعرية تقول:«إنّه العدل الذي يكبر في صمت الجرائمإنّه التاريخ مسقوفا بأزهار الجماجمإنّه روح فلسطين المقاومإنّه الأرض التي لم تخن الأرضوخانتها الطرابيش، وخانتها العمائمإنّه الحق الذي لم يخن الحقوخانته الحكومات، وخانته المحاكم».

Exit mobile version