إحصائيات خطيرة أوردها جهاز شؤون المغتربين حول أعداد السودانيين المهاجرين للخارج ، بمعدل أكثر من (5000) تأشيرة خروج يومياً، بالمقابل ترتفع معدلات تدفقات اللاجئين للبلاد بصورة كبيرة وغير مسبوقة، من دول (أفريقية) و (عربية)، لكأن السودان تنطبق عليه مقولة (نيوتن) العلمية : “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه “، الحكومة الآن ترحب بكل “قادم” وتلوِّح بابتسامات “الوداع” لكل مغادر .
ثمَّ مفارقة غريبة في أن يكون السودان في قائمة الدول الأكثر فساداً، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية للعام الماضي بينما “السوداني” مطلوباً في كثير من دول الخليج لأنه من “قوم” مشهود لهم بالأمانة ! لا يكاد يخلو بيت سوداني من “مهاجر” أو “مهاجرة”، ولا يخلو مجلس شبابي من الحديث عن “الهجرة” و “أحلامها”، أكثر العبارات تداولاً في مجالس زملاء المهنة : “بلد طاردة وما فيها شيء” ، أيضاً يتضح لنا من خلال هذا التحقيق الاستقصائي أن “القوانين” بالبلاد لاتفي بمحاربة ظاهرتي”تجارة البشر” والتسلل المتلازمتين المتزايدتين.
تحقيق : محمد سلمان
جدلية الخروج والوطن
ﻟﻮ ﺃﺟﺮى ﻛﻞ ﻣﻨا ﺇﺣﺼﺎﺋﻴﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﺣﻮﻝ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﻭﻣﻌﺎﺭﻓﻪ، ﻟﻮﺟﺪ الكثيرين منهم قد غادروا البلاد، بعضهم فضَّل أن يبحث عن فرصة عمل بالبخارج، والآخر “يهيم” على وجهه في رحلة البحث عن وطن بديل، في إطار جدلية الحقوق والواجبات والملاذ والعيش الأفضل.
إحصائيات مخيفة عن نسبة الخروج و “الهجرة”، واﻟﺴﻮﺩﺍﻥ أصبح ﻭﻃﻨﺎً ﻣﺆﻗﺘﺎً ﻳﺘﺴﺎﺑﻖ ﺃﻫﻠﻪ ﻟﻠﺨﺮﻭﺝ ﻣﻨه , صار ﻣﺜﻞ ” ﻣﺼﺎﻳﻒ ﺍﻟﺴﻴﺎﺡ” ﻳﻘﺼﺪﻩ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﺍﻹﺟﺎﺯﺍﺕ ﻓﻘﻂ .
يقول (مجتبى عامر) في تدوينه على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” : ( إذا أخذنا ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ ” ﺍﻟﻤﻐﺘﺮﺏ” ﻭ “ﺍﻟﻤﻘﻴﻢ” كمدخل لتعريف معني الوطن، نجد أن كل مواطن مقيم بالبلد كادح هو مشروع “ﻣﻐﺘﺮﺏ ,”ويحلم بالاغتراب والهجرة ,” ! وتجده ﻳﻠﻌﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﺻﻼﺕ ﻭﺍﻟﺤﻜﺎﻡ ﻭسوء الحال ﻭيشكو لطﻮﺏ ﺍﻷﺭﺽ .
بالمقابل تجد على موقع التواصل الإجتماعي “ﻔﻴﺴﺒﻮﻙ” إن كل ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻚ .. من “ﺍﻟﻤﻐﺘﺮبين” تتحدث ﻋﻦ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﻭﺍﻟﺤﻨﻴﻦ ﻭﺟﻠﺴﺎﺕ “السمر” و “الأنس” بالوطن و “المدينة” و “القرية”، ﻫﻞ ﻳﺸﺘﺎﻕ ﻫؤﻻﺀ ﻟﻨﻔﺲ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻓﻀﻪ ﻫﻮﻻء ؟.
ﻫﺬﺍ “ﺍﻹﺳﺘﺎﺗﻴﻮﺱ” ﻟﻦ ﻳﻔﻬﻤﻪ “ﺍﻟﻜﺎﺩﺣﻮﻥ ,” وﺭﺑﻤﺎ ﻳﻀﺤﻜﻮﻥ ويسخرون على ﻓﻜﺮﺓ اﺳﺘﺒﺪﺍﻝ كل ذلك النعيم ﻭﻏﻴﺮه ﺑﺠﻠﺴﺔ في “ﺷﺎﺭﻉ ﺍﻟﻨﻴﻞ” أو “الحي” أو “القرية” , ﻟﻦ ﻳﻔﻬﻤﻮﻫﺎ ﺇﻻ ﻭﻫﻢ ﻳﺘﻘﺒﻠﻮﻥ ﺗﻬﺎﻧﻲ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻋﺒﺮ ﺧﺪﻣﺔ ” ﺳﻜﺎﻳﺐ” !!
ﻓﻲ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ هناك برامج يعرف بـ” برامج ﺍﻹﻧﺪﻣﺎﺝ” وتهدف ﻟﺪﻣﺞ ﺍﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳد .. لكن تجد ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻌﺐ جداً على ” السوداني ” ﺃﻥ ﻳﻬﺎﺟﺮ ﺑﻘﻠﺒﻪ ﻭﺟﺴﺪﻩ .. فاﻟﺠﺴﺪ هناك، وكذلك يعمل بعقله وأﻳﺎﺩيه، لكن ﻘﻠبه يكون ﻫﻨﺎ حيث “كل شيء” جميل وله نهكته الخاصة . فـ”ﺍﻟﻤﻐﺘﺮﺑﻮﻥ” لا ﻳﻔﻬﻤﻮﻥ ﺣﺎﻝ” ﺍﻟﻜﺎﺩﺣﻴﻦ” ﻭﺗﻬﺎﻓﺘﻬﻢ ﺍﻟﻐﺮﻳﺐ على ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ.
ﻳﻜﻮﻥ” ﺍﻟﻤﻐﺘﺮﺏ” ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺳﻮﺩﺍﻧﻴﺎً ﻣﻦ ﻧﻮﻉ ﺁﺧﺮ .. ﻭﻳﺴﺘﻤﺮ ﻛﺬﻟﻚ حتى ﺻﺎﻟﺔ ﺍﻟﻮﺻﻮﻝ ﻭﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﻣﻊ ﺃﻭﻝ ﻧﻘﺎﺵ ﻣﻊ ﺿﺒﺎﻁ ﺍﻟﺠﻤﺎﺭﻙ ﺇلى ” ﺍﻟﻜﺎﺩﺡ” فيتبنى وجهة نظر المقيم هنا “المكتوي” بالجمر ﻭﻳﺒﺪﺃ ﻓﻲ ﻛﻴﻞ ﺍﻟﺸﺘﺎﺋﻢ.
ﺛمَّ ﺧﻄﺄ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﻮﻃﻦ “ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ” ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻐﻴﻴﺮ !!
ﻭحتى ﻧﺼﻠﺢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺘﺤﻮﻝ ﻷﻣﺔ ﻧﺼﻔﻬﺎ ﻣﻐﺘﺮﺏ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻏﻴﺮ ﺳﻌﻴﺪ , ﻭﻧﺼﻔﻬﺎ ﺍﻵﺧﺮ ﻳﺤﻠﻢ ﺑﺎلاﻏﺘﺮﺍﺏ ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻟﻴﺲ ﺳﻌﻴﺪﺍً ﺃﻳﻀﺎً .
الوطنية هي شعور عام وعاطفة إيجابية تنتاب الفرد المواطن وتشكِّل وجدانه تجاه وطنه ، ومن ثم ينعكس هذا الشعور من خلال قيم الانتماء ، فالذين غادروا وطنهم، وارتضوا ببلاد أخرى بديلة لحين “ميسرة” لا ينقص ذلك من وطنيتهم شيئاً ، والكادحون هنا الذين يلعنون وطنهم صباحاً ومساءً بسبب ما يحدث “لهم” وما يحدث “فيه” ، فلا حرج عليهم.
فلسفة شعبية
تقول إحصائيات غير رسمية: إن عدد اللاجئين السوريين بالبلاد يقدر بنحو (100) لاجئاً ، ورغم أن كثيراً من الدول أشاحت بوجهها عن السوريين ومأساتهم ومنعت عنهم حق اللجوء، إلا أن السودان يعد الدولة العربية الوحيدة التي فتحت أبوابها للسوريين، بل أن الرئيس البشير أوصى بمعاملة اللاجئيين السوريين كمواطنين ، نسبة للظروف المأساوية التي يمرون بها ، وكذلك تمت معاملة الجنوبيين الذين تدفقوا بكميات كبيرة بولايتي (النيل الأبيض) و (كرفان) ، كما يضم السودان كميات كبيرة من اللاجئيين (الأرتريين، الصوماليين، والأثيوبيين) بجانب أعداد قليلة من دول (أفريقيا الوسطى، الكنغو) وقال مدير الشؤون المالية والإدارية بمعتمدية اللاجئين بالبلاد “عادل دفع الله” – الذي مثَّل المعتمدية في ورشة عمل أقيمت بماليزيا – للمركز السوداني للخدمات الصحفية : إن المعتمدية تعتزم إجراء فحص قانوني على اللاجئيين الأثيوبيين خلال الأسابيع المقبلة، كما أنها بصدد مهمة جديدة تتعلق بتسجيل اللاجئيين السوريين ، وأكد مدير الشؤون الإدارية بالمعتمدية معاملة اللاجئيين السوريين كمواطنين سوادنيين أسوة باللاجئيين الجنوب سودانيين وفقاً لتوجيهات رئيس الجمهورية ، ويرى مراقبون بأن فتح السودان أبوابه للسوريين والجنوبيين وغيرهم لا يعد سياسة حكومية فحسب، بل حتى هو “سلوك سوداني” أصيل للشعب الذي عرف بالمروءة، وإكرام الضيف، ونجدة الملهوف، بصرف النظر عن الظروف التي يعايشونها، وللسودانيين في هذا أمثال شعبية متواترة منها (الفقراء اتقاسموا النبقة)، بل أن مفردات الغناء الشعبي تمضي أكثر من ذلك حين تقول: “ود المك رجل بعزم علي المافيش”.
نقص حاد ومخاطر
وشكا مدير إسكان اللاجئيين بالقضارف (برعي الصادق) في حديثه لـ(التيار) عن نقص كبير في معدات “الإيواء” و “الغذاءات” و “العربات والمتحركات” يواجه الإدارة في ظل ارتفاع تدفقات اللاجئيين، ونبَّه للمخاطر التي يتعرض لها “اللاجئون” و “المتسللون” خلال عمليات التهريب، أو اعتراضهم بواسطة عصابات الإتجار بالبشر ، وقال مسؤول الحماية المدير الإداري بإدارة الإسكان (عثمان حسين) للصحيفة : ( من المشاكل التي تواجهنا بإدارة الإسكان حيث يبقى اللاجئون بمباني الإدارة لعدة أيام لحين اكتمال إجراءات دخولهم للمعسكر، هروب اللاجئيين من داخل مباني الإدارة قبل أن يتم ترحيلهم للمعسكرات خارج المدينة، والنقص في المواد الغذائية، وعدم وجود مبالغ كافية للتسيير بالمعسكر ومقابلة الحالات الطارئة، بجانب عدم وجود حماية للعاملين بالمعسكر، وظروف عملهم التي تجعلهم عرضة للأمراض في ظل عدم تقاضيهم بدلات نقدية لذلك )، ووصف حسين “سور” مباني الإدارة بأنها غير آمنة ، ويكون اللاجئون عرضة للشمس والأمطار، بيد أن حسين أكد انخفاض حالات الهروب بعد استعانة الإدارة بالشرطة لعمليات الحراسة، وثمَّن مسؤول الحماية جهود الأجهزة الأمنية والسلطات المختصة في محاربة عصابات الإتجار بالبشر ، ونقص الدعم اللوجستي يجعل اللاجئين عرضة للأمطار والشمس والحراسة “، وشهدت ” التيار” ترحيل (181) لاجئاً من مباني إدارة الإسكان لمعسكر “الشقراب” ، وأوضح مسؤول الحماية بالإدارة أن المرحلين معظمهم من الشباب والشابات، حيث كان من بينهم (96) لاجئاً أريترياً، و (85) لاجئاً صومالياً.
سيناريوهات الدخول
وتوقع مصدر مسؤول ذو صلة في حديثه لـ(التيار) ارتفاع تدفقات اللاجئيين الأريتريين والصوماليين صوب المعسكرات والجهات المسؤولة بسبب فصل الخريف، مبيناً بأن ظروف الخريف والأمطار تحد من نشاط “المهربين” بسبب وعورة الطرق، فيضطر “مهربو البشر” – على حد قوله – : لـ( تسليم اللاجئيين أو وضعهم عند أقرب نقطة بحيث يمكن أن تعثر عليهم السلطات، أو يقوم أفراد إنابة عن المهربين بالتبليغ عن تواجد أجانب بموقع “كذا” فتأتي السلطات فتلقي القبض عليهم وتتم محاكمتهم، وبعد الحكم يتم إرسالهم لإدارة اللاجئيين لتوفيق أوضاعهم القانونية وتسجيلهم رسمياً كلاجئيين ) ، وأحياناً _ بحسب المصادر _ فإن شبكات تهريب البشر تكون في حالة متابعة دائمة ولصيقة لـ”اللاجئين” من المحكمة وحتى تسليمهم لإدارة الإسكان والتي بدورها تقوم بترحيلهم عبر عربات للمعسكر، وعادة ما يستأنف “المهربون” إعادة تهريب “المتسللين” بعد اختطافهم من مباني الإدارة أو معسكرات اللاجئيين ، فيتم تهريبهم للعاصمة الخرطوم، أو حتى لدولة “ليبيا” ليتهربوا من هناك عبر البحر المتوسط. أما “تجار البشر” و “الأعضاء البشرية” فهم يمثلون أكبر المخاطر التي تحدق باللاجئيين فلا يتورعون في اعتراض شاحناتهم حتى تلك التي تتبع “للأمم المتحدة”، فيختطفوهم تحت تهديد السلاح، إلا أن معتمدية اللاجئيين تمكنت من الحد من الظاهرة نوعاً ما، بالاستعانة والتنسيق مع الأجهزة الأمنية والشرطية.
تشريع ضعيف
ويرى مراقبون بأن التشريع الموجود بالقانون الجنائي لسنة (1991) يعد تشريعاً ضعيفاً ولايفي بالغرض المطلوب في الحد من ظاهرة الإتجار بالبشر، وأوضح مراقبون “للصحيفة” بأن معظم الذين يتم القبض عليهم من “المهربين” والمشتغلين بـ”تجارة البشر” تتم محاكمتهم بموجب المادة (30) جوازات وعقوباتها تنص على الغرامة فقط، وليس من بينها مصادرة “العربة” أو “الوسيلة”، ويلفت المراقبون إلى أن المادة (70) المتعلقة بالإتجار بالبشر يصعب إثباتها، حيث تتطلب أن يكون تهريب اللاجئيين بالإكراه، أو تحت ضغط السلاح، بينما في تجارة البشر يكون هناك اتفاق مسبق معلوم برضي الطرفين (اللاجيء والمهرب)، وينوِّه المراقبون إلى أن ظاهرة التسلل وتجارة البشر قد انحسرت بولاية “كسلا” رغم إنها ولاية حدودية كالقضارف بفضل تشريع ولائي سنه مجلس تشريعي كسلا نص على عقوبات رادعة للمشتغلين بتجارة وتهريب “البشر”.
الصيحة