الباحث بين أضابير أرشيف صحف دار الوثائق القومية المحفوظة بعناية فائقة، حتى تبدو وكأنها صدرت اليوم لولا أنها بحجم (التابلويد), يجد متعة كبيرة في الاطلاع والتقصي عن أحداث الماضي، ومتعة أكبر في استحضارها عبرة وعظة للحاضر.
فاغر الفم جاحظ العينين
المطلع على ما ورد في تلك الصحف من أخبار ومعلومات، وكل ما دار في أزمان فائتة، يرى العجب العجاب، وتجعله الدهشة العظيمة فاغر الفم جاحظ العينين، وأحياناً مصفقاً بكلتا يديه دهشة وإعجاباً, ومرات عديدة متحسراً دامع العينين، كما هو الحال في هذا الخبر الذي تصدر صحيفة (الاستقلال)، الصادرة في الثاني من يناير من العام 1956 متزامناً مع إعلان استقلال السودان، الذي يخص الصحفيين رغم أن كثيرين منهم لا يعلمونهم، وخاصة أبناء الجيل الحالي ومن سبقوهم بقليل.
خبر صادم
الحدث يعد أسوأ خبر شهدته الأوساط الصحفية والإعلامية هو يتعلق بزميل صحفي شغل منصب مساعد محرر صحيفة (العلم)، حيث انتحر غرقاً مسلماً جسده الذي هده الانهيار العصبي للنهر، حسبما ذكر هو شخصياً في تلك الوريقة التي خلفها من ورائه بخط يده.
ولربما، ومنذ وقت بعيد – إلى الآن – ظل يعاني الكثيرون من أهل الصحافة من ضغوط المهنة ومتاعبها وواقعها الذي لا يخفى على أحد سواء، ولكننا رغم ذلك لم نسمع بحدث كهذا, فاقرأوا معي الخبر الذي نقلته بتصرف كما ورد بالصحيفة المذكورة عنواناً رئيساً (انتحار صحفي): عثر البوليس في الثامنة من صباح الأمس على ملابس المرحوم الزميل (علي الشيخ) مساعد محرر جريدة (العلم) على شاطئ النهر بالقرب من رئاسة مجلس الوزراء وبين طياتها رقعة بخط يده يذكر فيها أنه انتحر لإصابته بانهيار عصبي. وقد ظل آل الفقيد وأصدقاؤه ومعارفه يواصلون مراقبة الشواطئ طوال نهار وليلة الأمس حتى صباح اليوم دون أن يعثروا على الجثة.
إضاءة لسيرة الراحل
كان المرحوم (علي الشيخ البشير) رئيساً لتحرير جريدة (الأشقاء) ثم محرراً بجريدة (السوداني) عامين كاملين، فرئيساً لتحرير جريدة (وادي النيل) لسان حال حزب الأشقاء جناح نور الدين، فمساعداً لرئيس تحرير جريدة (الاتحاد) فـ (العلم) ـ كما كان عضواً في لجنة اتحاد الصحافة، وقد كان خلال عمله الصحافي مثالاً للجد والمثابرة والشعور بالمسؤولية، كريم الخلق, رقيق الحاشية أليفاً محباً، رحمه الله رحمة واسعة وألهم آله وذويه الصبر والسلوان.
إنها مهنة انتحار
وفي السياق، يرثي الصحفي الشهير (محمد أحمد السلمابي) زميله الذي انتحر صبيحة الأول من يناير 1956 في مقال بعنوان (إنها مهنة انتحار): هذه رسالة للزميل علي الشيخ البشير: يا علي، يا أيها الزميل الذي أودع أنفاسه أعماق النيل والذي ارتضى الظلمات في صبيحة يوم مشرق النور, ويوم فاضت بالناس فرحة الاستقلال, يا من حطمت أعصابه الأحداث وهدت قواه معارك الساسة والصحافة، فانهار بناؤه أمام تيارها العنيف. أيها الزميل: لم تكن – غفر الله لك – ولن تكون أول وآخر ضحايا الساسة والصحافة، فإننا جميعا أبناء مهنتك يا علي نعيش على أعصابنا، ويوم أن ينفذ مخزون الصبر والجلد، سننهار غير مخلفين إلا مصمصة أسف في شفاه المعارف وعبرة حزن في عيون الأهل والولد.
قد لا يدرك الكثيرون منهم مدى النور الذي أضئنا لهم به الطريق وقوة المعول الذي هدمنا لهم به القضبان، ويوم تنطفئ الشمعة بفعل الرياح أو الذوبان، ويوم يتحطم المعول من ضربات صخور الحوادث لن نكون غير رماد تذروه الرياح وبقايا عود طمرته السافيات.
مهنتنا يا علي مهنة شاقة, إجهاد فكر واحتراق أعصاب وتعب جسم, تضطر مرات للدفاع عن شيء أنت أول الكافرين به، وتبتسم لشخص أنت أول المحتقرين له، وتهاجم صديقاً أنت خير المقدرين لسجاياه، وتتلقى التوجيه والأوامر من أفواه لو كان لك الخيار لقطعتها لساناً وشفتين. إنها السياسة أيها المنتحر العزيز كلها نفاق وشقاق, إنها الصحافة كلها فاقة وإملاق وإرهاق.
إنها الحزبية كلها احتمال لما يطاق وما لا يطاق دون أن تجد منها كلمة عطف أو إشفاق. أيها الزميل الذي اختار النوم في الأعماق بين الحيتان: هنيئاً لك دنياك الهائمة، ولو قدر لنا فإنا بك لاحقون.. (السلمابي).
اليوم التالي