أصبح هناك ميل إلى الاغتراب عن الفضاء العام للكتابة العربية لدى كثير من الشعراء الشباب في السودان. الأمر أشبه بممارسة كتابة مختلفة وُجدت في نصوص غلب عليها التجريد والغموض والغرائبية، تماثل تلك التي نلمسها في عوالم سليم بركات.
إنه ضرب من اغتراب يروم تعزيز خصوصية سودانية ما، لكتابة مغتربة أصلاً على وقع سجال إيديولوجي حيال صراع الهوية الدائر في السودان منذ أكثر من ربع قرن.
هكذا، إذا ما أمكننا تتبع الكثير من نصوص مجلة “إكسير” السودانية غير الدورية، والتي يمكن اعتبارها منبر كتابة الشعراء الشباب من أمثال: محمد الصادق الحاج، أحمد النشادر، ناجي البدوي، راندا محجوب وآخرين، سنقع على نماذج لنصوص استلهمت مزاج سليم بركات، من خلال نسق تعبيري مارس تسييلاً غريباً لخيال مفكك العناصر، تنشط فيه إشارات غامضة لعوالم سليم بركات، وعلى نحو يضعنا باستمرار أمام سؤال التجنيس في هوية نصوصهم.
”
بين جدل الهوية واغتراب الكتابة العربية فيه، يتشظَّى جيل الشعراء
”
. علق هؤلاء في مناخ يشكَّل ضغطاً متواصلاً للتناقضات التي عوّمها المتن الإيديولوجي الإعلامي لخطاب السلطة، ذلك الخطاب ذي النزعة الطُهوريَّة المُوَسْوِسَةْ حيال الثقافة العربية في السودان، في مواجهة الدعوة إلى ثقافات سودانية متنوعة نادت بها “الحركة الشعبية الجنوبية” ضمن خطابها السياسي حول أطروحة السودان الجديد؛ ما أدى في النهاية، ضمن أسباب أخرى، إلى انقسام السودان.
في جانبي الصراع، كانت اللغة العربية ضحية بريئة. ولعل ما أوقع تلك الكتابة الشبابية في حال من الاغتراب بين اللغة والهوية ما هو إلا صدى لمقولات بعض المثقفين السودانيين؛ من أن العربية في السودان “غنيمة حرب”، مقتبسين المقولة الشهيرة للروائي الجزائري، كاتب ياسين، التي عبر فيها عن موقعه وموقفه كمثقف من اللغة الفرنسية في الجزائر.
في الواقع، لا يمكن تفسير هذا الاغتراب وتلك المقولة ضمن أسباب معرفية حيال تمثُّل السودانيين للعربية، وسياق ظهورها التاريخي في البلاد، بل يندرج الأمر كأي سياق إيديولوجي، في الأسباب الثقافوية لسياسات الهوية والأدلجة، كما في سياق الضربات التحويلية التي مزّق بها النظام مقومات الهوية السودانية منذ ربع قرن.
إلى ذلك، بدا اغتراب الكتابة السودانية على هامش المركز العربي، بصورة ما، أحد ردود فعل الهوية الثقافية العربية في دفاعها عن ذاتها، وارتهانها لخطابات نظم متخلفة أنتجت واقعاً ثقافياً مأزوماً.
والحال، أن ما بدا اختلافاً في كتابة الشعراء الشباب، وما صاحبها من ميل واضح للهوس بالتشكيل والضبط وعلامات الترقيم في متون تلك الكتابة “الجديدة” ونصوصها؛ ربما هو أحد ردود فعل الكتابة المغتربة ذاتها. وهو ما نحسبه بعيداً عن أي استحقاق يسعى إلى مواجهة اللغة العربية كلغة طبيعية لعامة السودانيين؛ بها يغنّون ويحلمون.
العربي الجديد