* يطربني ذلك الوصف البليغ، بأن معظم المدن السودانية قد نهضت على الطريقة الإبراهيمية، كأن ينتحي رجل عابد ذاكر مصلح إلى أرض فلات لا ناس فيها ولا حياة، فيقيم مسيدا وخلوة ومسجدا ونداء وصلاة، وهو يومئذٍ يتمثل بالآية الكريمة “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ”، ثم تصبح هذه المنطقة الجرداء مدينة أمضبان ومدني السني وكدباس والزريبة وطيبة والدامر و.. و… * بالأمس احتجت أن أقرأ رواية تاريخ وتأسيس مدينة دامر المجذوب، وذلك لصالح عمل وثائقي مرتقب، قراءة جديدة طازجة ضاجة بالحياة وليس قراءة بايتة ميتة من النت، فرشح لي الأخ الأستاذ الإعلامي الباهر جمال مكاوي، رشح أسطورة التراث الأستاذ محمد أحمد قدور الباحث بمركز التراث بجامعة وادي النيل، نسخة أخرى أكثر إدهاشا وإمتاعا من نسخ أسرة آل قدور المعطاءة، متعهم الله بالصحة والعافية، وهو الشقي الآخر بمهن الأدب والثقافة والشقيق الآخر لدكتور عمر وأستاذ السر قدور، ولطالما هو ضرب أستاذي قدور قد شقي بنا وشقينا به وسعد بنا وسعدنا به، آل قدور الذين قدموا للحياة السودانية الكثير، وهم من الأسر السودانية العريقة الذين قدمتهم الدامر عاصمة الأدب والعلم والتأريخ، وأستاذ محمد أحمد قدور كما أحمد مطر في شاعريته المتقدة، قال مطر: “غيري شاعر يكتب قصيدة وأنا شاعر تكتبه القصيدة”.. بمعنى أن رجل آل قدور يعطيك نسخة حية من تاريخ مضت عليه قرون فيجعله يمشي أمامك، سأقف هنا فقط عند بعض الإفادات الملحة المجبرة.. اتخذها لأول مرة الشيخ حمد بن عبدالله الجد الأكبر للشعديناب (دمرا) له، أي مقرا، كان ذلك في القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت تعرف (بدامر حمد) قبل أن تأخذ صفة (دامر المجذوب)، نسبة للشيخ محمد المجذوب الجد الأكبر المدفون في سنار، والمجاذيب هم سلالة الشعديناب نسبة لشعاع الدين ابن عرمان ..ومن رموزهم المعاصرين الشاعر الفذ محمد المهدي المجذوب والأديب الضخم البروفيسور عبدالله الطيب المجذوب، على أن الذي يدهشك في تاريخ الدامر أنها (مدينة علمية بامتياز) حتى قال عنها أحد الرحالة إنها المدينة العلمية التي يحكمها العلماء.. وبينما يرى كثيرون أن الدامر قد تخلفت عمرانيا، يفترض، في المقابل، الأستاذ قدور أن يحسب ذلك تقدما ويدرج في خانة النجاح، أن حافظت الدامر علي طابعها العلمي التقليدي التاربخي، علي أن مدن العلم والجامعات هي مكان للهدوء وليس للضوضاء والترف المعماري والزخم. وفي هذا السياق قال عنها الشاعر توفيق صالح جبريل “يا دامر المجذوب لا انت قرية تبدو بداوتها ولا بندر”.. فسطوة العلم والعلماء هي التي شكلت دعامة الأمن التي نهض على أمانها سوق الإبل الشهير، فضلا عن أنها ملتقى كبير بين (أهل المطر وأهل البحر).. ومن هنا يمكن أن نقرأ ظهور حالة الشاعر أوكير الدامر، عندما يمتزج المطر بالبحر بالجالوص، يصبح للتاريخ هتاف وللتراث عطر وللشعر مذاق وللحياة معنى آخر.. وتلك قصة أخرى سنعرض لها في حينها . * فلئن أصبحت شندي مدينة إدارية تاريخيا وكذلك المتمة لمجموعة الجعليبن الكبري، ففي المقابل قد أضحت الدامر، عاصمة المجموعة الجعلية الصغرى، (مدينة علمية) بامتياز، ولقد شيد فيها الأتراك مركزا وسجنا أصبح هو الأشهر على ربوع السودان، وذلك بوصفها مدينة الأمان، فكل الطرق في الدامر تكتاد تؤدي إلى السجن العتيق، وعلى طرف وضيئ من المدينة مغتسل بماء نهر العطبراوي نشأ وترعرع وأبدع وكتب الراحل الطيب محمد الطيب (ذاكرة قرية).. هنا حيث الملتقى.. البحر بالمطر والعلم والتأريخ والقطر.. لا تعرف بمن تحتفي، بقدور أم بمدينة العلم أم بالتاريخ.. ليس هذا كل ما هناك.