منى عبد الفتاح : “قرفنا” السودانية

لم تشفع الحركات الثورية العربية التي خرجت معبّرة، بشكل مباشر، في أن تحوّل حالات السأم العام، إلى غير مزيدٍ من الاشمئزاز من حكوماتها. فمهما علا الصوت من هذه الحالة التي يصعب معها الاحتمال والتعبير، نجد أنّ حالة أخرى دفاعية تقابلها، هي إغراق المواطن العربي بمزيد من صنوف ما قرَف منه، حتى تحوّل إلى كائن يائس وبائس.
لم تبدأ حالة القرَف الثوري في السودان، لكنها بدأت حركة احتجاجية، توسعت مع الأيام، لكنها لم تصل إلى مقام الثورة. تأسست حركة “قرفنا” السودانية قبل ست سنوات، أي قبل أن تصل حالة القرف العربي إلى ذروتها في مصر وسورية وليبيا واليمن، وأخيراً لبنان. ولعل اسم الحركة يعبّر عن حالة احتجاج ممزوجة بغضبٍ ساخر وموجع. وتعتبر السخرية اللاذعة من موروثات الاستعمار البريطاني في السودان، وعلى الرغم من أنّها ليست نتاجاً وطنياً صرفاً، إلّا أنّ المجتمع السوداني أخذها من منبعها، ولوّنها فصارت هجيناً يعكس نوعاً من السخرية الجادة أكثر من الكوميدية.
ومع أنّ مؤسسي الحركة ناشئة من مواليد الثمانينيات والتسعينيات، إلّا أنّ مستوى النشاط والتنظيم تفوق على تنظيم المعارضة مثل هذه الاحتجاجات. “قرفنا”، كلمة تستجمع كل ألوان الاشمئزاز، من نظام يجثم على الصدور منذ ولدوا. ومن ثراء هذه الكلمة أنّها لو وقعت في مواضع مشابهة للإحساس نفسه لانسجمت معها، فهي تجمع معاني التقزز والاشمئزاز والنفور ومخالطة ما يُستكره.
قامت حركة قرفنا احتجاجاً على الانتخابات المزعومة التي كان حزب المؤتمر الوطني الحاكم ينوي قيامها عام 2010، والتي كانت الانتخابات السودانية الأولى من نوعها في 21 عاماً. وقبل أن تُقام، كانت شفافيتها محل جدل ورفض من الشعب السوداني ومنظمات المجتمع المدني والناشطين، حيث دعوا الرئيس عمر البشير إلى تسليم السلطة لحكومة انتقالية أولاً قبلها.
ثم قامت انتخابات مرة أخرى، وفي كل منهما، أقسم البشير أنّه يترشّح للمرة الأخيرة، وأنّه لم يكن ليواصل في سدة الحكم لولا رغبة الجماهير. هذه الجماهير التي صادر إرادتها لم تقوَ على الاحتجاج أو التظاهر إلّا في محاولات باهتة، وإنّما للأمانة تمسكت بحقها في أن تقرف من كل شيء، الفساد في أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، لقمة العيش الممزوجة بحنظل الغلاء، الأدوية باهظة الثمن والعلاج المُهلِك، المحروقات التي رُفع الدعم عنها، الماء المنعدم وفي حالة توفره مخلوط بمياه الصرف الصحي، الهواء الملوّث بالنفايات التي تتحصّل الحكومة ضريبتها من المواطنين، من دون أن تحلّ مشكلة أكوامها المتكدسة في الشوارع وأطراف المنازل والمنشآت.
لا يتوقع هؤلاء الشباب أنّه بعد هذا كله، ثمة ما يستدعي الحديث عن (لِمَ القرف؟) وقد كان السودان البلد العربي الوحيد تظهر مأساة حكمه في سحنات شعبه، ما يستدعي الحياء معه في الحديث عن جوعٍ وظلمٍ وزراية. ولعل هذا البؤس المظهري وعدم الاستقواء على حمل هموم السلطة، عوضاً عن هموم شظف العيش البادية، يفسّر فشل المظاهرات والاحتجاجات التي قامت على قلّتها.
ما زال السودان في مفترق الطرق منذ 1989، ومنذ ست سنوات عند مفارقته القرف الصامت، وإعلانه ضمن حركة احتجاجية ما زالت تناضل. ولكن، بين مطالبة الحكومة الشعب بشكل عام، وأعضاء هذه الحركة خصوصاً، بضرورة إثبات حالة القرف، وبين إسقاط الحكومة إو إجبارها على التنحي أو الإصلاح، يكمن الفرق بين القول والفعل.
تأخر الربيع العربي في السودان، بسبب اجترار الشعب هناك أهزوجة القرف هذه التي لا تراها الحكومة غير حالة نفسية، لشعب مزاجي. وللتعامل مع حالةٍ كهذه، أخذت الحكومة تنظر إلى رد فعل هؤلاء الشباب بصبر كبير. ولمّا تعالت صيحاتهم وهم المعبرون عن غالبية الشعب السوداني، عاجلتهم بالضرب بيدٍ من حديد. ولم تمسك الحكومة بردعها هذا إلّا لأنّها لم تكن تريد أن يتفاقم التعبير عن القرف، حتى وصلت الحركة إلى إقليم دارفور وجنوب النيل الأزرق والشرق، وعمّت القُرى والحَضَر، وأصبحت احتجاجاتها مرصودة عالمياً.
تصل حالة القرف إلى جنّة الشرق (لبنان). صبر اللبنانيون على كل شيء، حتى الفراغ الرئاسي الذي تجاوز العام. ولكن، نفد الصبر عند مزابل “طلعت ريحتها وريحتهم”.

Exit mobile version