من بين الجاليات اليهودية في العالمين العربي والإسلامي تُعدُّ الجالية اليهودية في السودان قبل قيام دولة إسرائيل الأقل عدداً، حيث لا يتجاوز عدد أفرادها الألف، ولكنهم يستحقون أن يذكرهم التاريخ. (يشوا ليفي) البالغ من العمر 81 عاماً مهندس بحرية متقاعد، غادر شقته في تل أبيب متوجهاً إلى جامعة بار إيلان لحضور مؤتمر (النزوح، الهجرة، الطرد والاقتلاع)، وهو بمثابة اليوم الوطني لتكريم اليهود المهاجرين من البلدان العربية والإسلامية.
جالية لا يؤبه لها
(ليفي) سمع فقط بالمؤتمر قبل يوم واحد من انعقاده، ولم يكن مندهشاً لتجاوزه من قبل المنظمين لعدم إرسال دعوة رسمية له، لأنه ينتمي لجالية صغيرة من اليهود المهاجرين من السودان، ولم يعلم المنظمون للمؤتمر بوجوده، حتى الباحثين في الجامعة، المختصين بالهجرات اليهودية، لم يسمعوا به. يقول ليفي: “نحن سنموت قريباً دون أن يسمع بنا أحدٌ”. كانت الجالية اليهودية في السودان أقل من ألف فرد، نقطة في بحر بالمقارنة مع الجاليات اليهودية في البلدان العربية الأخرى، ففي المغرب مثلاً كان هناك 260 ألفاً وفي الجزائر 135 ألفاً وفي العراق 125 ألفاً وفي تونس 90 ألفاً وفي مصر القريبة من السودان 75 ألفاً قبل أن تتكون دولة إسرائيل.
هجرة القيادات
يهود السودان تلاشوا بعد استقلال السودان في العام 1956 بعد ما أصبح السودان عضواً في الجامعة العربية، وغادر نحو 500 منهم مباشرة إلى إسرائيل، بينما توزَّع الباقون حول العالم. ويمضي ليفي قائلاً: “لم نكن منظمين لأن عددنا كان محدوداً وقياداتنا الكاريزيمة في السودان هاجرت إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، أما الذين جاءوا إلى هنا – إسرائيل – تماهوا مع المجتمع هنا”. لكن بالنسبة لـ (ليفي) العدد ليس هو الأهم وإنما الحكاوى والإرث والتقاليد والتاريخ للجالية اليهودية في السودان الذي لا يزال يعيش في ذاكرته بعد 65 عاماً منذ غادر الخرطوم، وهو في عمر 16 عاماً. جده لأمه (فاراغ شوا) ركب القطار في العام 1900 متوجهاً من مصر إلى السودان، ومعه ماكينة خياطة ماركة (سنجر)، ليصبح واحداً من أكبر تجار الأقمشة بالخرطوم.
أول كنيس يهودي
في غرفة صغيرة مستأجرة أيام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان، كان أول كنيس يهودي في السودان العام 1905 لتعليم أبناء الجالية التوراة واللغة العبرية. كان شوا يزور إسرائيل كثيراً، وفي إحدى رحلاته إلى طبريا التقى بالحاخام سالومون مالكه، ودعاه ليصبح كبير حاخامات السودان. والدة ليفي كبرى بنات جده شوا (رحمة) أو نيهمة، ولدت في الخرطوم 1901، وهي الأولى بين 11 إخوة وأخوات، وعندما بلغ عمرها 16 عاماً أخذها والدها إلى مصر حتى يجد لها عريساً مناسباً من يهود مصر لأن عدد الشباب من اليهود في السودان كان قليلاً، وكانت التقاليد في ذلك الوقت أن يأخذ كل يهودي بنته إلى مصر ليختار لها عريساً من بين عدد من الشباب. هكذا تقابل والد ليفي ساسون ليفي بوالدته رحمة وتزوجا وعادا إلى الاستقرار بالخرطوم، يقول ليفي: “والدي اليهودي المصري كانت طريقته في التحدث باللغة العربية تختلف عن جدي لأمي المقيم في السودان، وكنا نضحك عليه في الكثير من العبارات”.
بدايات الشعور بالقلق
ساسون ورحمة أنجبا ثمانية أطفال في السودان، يقول ليفي: “بعد حرب 1948 بدأنا نشعر بالقلق، حيث كان الأطفال في الشوارع يلاحقوننا بعبارات (يهود عودوا إلى فلسطين ماذا تفعلون هنا)”. وبعد عام على الحرب قررنا الرحيل، فاستأجرنا طائرة خاصة من مطار الخرطوم إلى مطار اللد مع توقف في الحدود السودانية المصرية للتزود بالوقود.
ليفي حينما وصل إسرائيل أضاع بطاقة المهاجر التي تحدد تاريخ الميلاد، فكان لابد من أداء الخدمة العسكرية في إسرائيل، بعدها التحق بمدرسة فنية، حيث درس الميكانيكا في حيفا، وعمل في شركة لبناء قوارب صيد السمك قبل الابتعاث إلى هولندا لدراسة الهندسة البحرية، ثم إلى إنجلترا، وعاد إلى إسرائيل مستشاراً لشركة شحن بحري في عوفر.
عاشت الجالية اليهودية أوقاتاً صعبة بعد ثورة الإمام المهدي في 1882 عندما هزم الجيوش المصرية التركية وقتل الجنرال البريطاني غردون. وبعد عودة الاستعمار البريطاني للسودان تحسنت أوضاع اليهود الذين مع استقلال السودان العام 1956 وجدوا أنفسهم محل شك وريبة من السودانيين باعتبارهم جواسيس لدولة إسرائيل، فقرروا الهجرة، وأصبح بعضهم تجاراً كباراً مثل تمام غاوون وسارويسي وموريس ليفي وايزرا شوا.
اليوم التالي