تعتبر مجلة الفورين بوليسي (Foreign Policy) الإخبارية الأمريكية هي إحدى مؤسسات صناعة الرأي والفكر الرصينة في أمريكا، وتقارب مراكز التفكير (Think Tank) التي يأخذها المحللون السياسيون على محمل الجد. تناقش المجلة أغلب الأحداث العالمية بالإضافة إلى الأخبار الموثقة، لذا يمكن اعتبارها قنديل وسائل الإعلام الغربية والعربية.
جاءت المجلة مؤخراً وفي عددها ليوم 20 أغسطس الجاري بمقال للكاتبة والمستشارة السابقة لوزارة الخارجية وأستاذة القانون في جامعة جورج تاون روزا بروكس، أوضحت فيه احتمال تحالف الولايات المتحدة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مستقبلاً وربما يصل الأمر إلى أن يتخذ التنظيم مقعداً في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
بنت بروكس فرضيتها مستعينة بالتاريخ الذي شهد ارتكاب الفظائع الجماعية مما لا تشكّل معه ممارسات تنظيم داعش عائقاً أمام النجاح في المستقبل. ومن ضمن ما أرودته هو أنّ بريطانيا شيدت إمبراطوريتها معتمدة على تجارة الرقيق، وألمانيا ارتكبت أكبر إبادة في التاريخ، وحكومة فرنسا الثورية قطعت علناً رؤوس حوالي 40 ألفاً إثر الثورة باسم الحرية والمساواة والأخوّة، وقتلت أكثر من 150 ألفاً في بدايات 1790م حتى أنّ الخيول كانت تدوس الأطفال بأقدامها، وها هي فرنسا اليوم حليفة للولايات المتحدة.
يذهب هذا المقال في اتجاهين، أولهما: ممكن جداً أن يكون هناك اتجاه للولايات المتحدة للاعتراف والتحالف مع تنظيم داعش، وهذا الاتجاه تدعمه عدة حيثيات. أول هذه الحيثيات هو أنّ أجهزة الاستخبارات الأمريكية صرّحت بأن تنظيم داعش يتمتع بالقوة التي كان عليها قبل عام، وأنّ بإمكانه التعويض عن خسائره البشرية من المقاتلين بطريقة أسرع من أي وقت مضى.
ثانيها هو تحوّل التعبير في الإعلام الغربي بوصف تنظيم داعش إلى الاسم الكامل لتنظيم الدولة الإسلامية مما يعني اعترافاً ضمنياً به. ثالثها هو أنّ هذا المقال تعبير عن صنّاع الرأي في الولايات المتحدة، لما لهم من نفوذ تتم ممارسته على صناعة القرار، فمجلة فورين بوليسي هي المجلة التي أنشأها صمويل هنتنغتون صاحب كتاب ونظرية صراع الحضارات التي شغلت الدنيا والناس والتي بدأها كمقال حمل ذات الاسم ثم حوّلها إلى كتاب بعد أن ازداد استفهام الناس عنها.
جادل هنتنغتون فيها بأنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلاف أيديولوجيات بين الدول القومية بل بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم، وهو ما تمسك به حتى آخر أيام حياته.
الاتجاه الثاني هو أن يكون هذا المقال مجرد احتمالات لم تصل إلى مرحلة النظرية بعد، ولكنه يلقي بكثير من الغبار على سلطة داعش المزعومة وممارساته لإثارة نوع من الاضطراب في سياسات الشرق الأوسط، مما يُفقد التنظيم توازنه ويعجّل بنهايته. ويدعم هذا القول سعي الولايات المتحدة الحالي في ملاحقة قيادات تنظيم داعش بغرض تصفيتهم.
ومما يزيد من ترجيح هذا الاتجاه هو أنّه جاء شبيهاً بمقال صراع الحضارات والذي رغم تحوله إلى كتاب أزال بعض الاستفهام عن فكرته الأساسية، ولكنه ما زال يحمل نوعاً من الغرابة في الطرح. وحتى لو لقيت هذه الفرضية اهتماماً فهو لا يعدو أن يكون بسبب الجدّة، وما تستلزمه طرق التفكير الابتكاري الذي يجيء بالغريب ويحدث حوله نوعاً من العصف الذهني الموصل إلى فكرة ما حتى ولو قريبة من تلك المطروحة.
وبالرغم من أنّ فكرة صراع الحضارات واجهت بعض الإنكار من جهات عدة إلّا أنّها واصلت فيما زعمت ولكي يثبت مؤيدوها نظريتهم دخلت الولايات المتحدة عنوة في الشرق الأوسط، وحدث ما حدث في العراق، اعترفت بعدها أمريكا أنّ احتلالها للعراق كان غلطة تاريخية فادحة.
ثم إنّ الكاتبة وضعت شرطاً لتحقيق هذا التحالف وهو تخفيف وحشية داعش، وهو مما لا يمكن تحققه لأنّ الوحشية هي ذروة سنام داعش التي يكتسب منها قوته في مواجهة البشر وكل ما هو إنساني.