يقول شاعر الفرس الكبير “مولانا” جلال الدين الرومي: “إن من يعرف الرقص، يحيا في ذات الله”. بهذا المعنى الصوفي الذي يتبوّأ الرقص من خلاله مكانة جليلة لا يدركها غير الزهّاد والمتصوّفة، وضع الحسّانيون، وهم من قبائل جنوب المغرب، أسس رقصة “الكدرة”، أحد أهم الفنون الشعبية الحسانية. وهي تعتمد على توظيف الجسد والسفر به “إلى ما وراء الغواية”.
ما هي “الكدرة”؟
“الكدرة”، تلك الرقصة المغربية الصحراوية، شبيهة برقصة الثعبان لدى قبائل “كالبيلياس” الهندية. خلالها تتنافس المرأة مع الأفعى في أدقّ حركاتها وخفّتها، وهي ترتدي لباساً أسود يحيل الذهن إلى ثعبان “الكوبرا”. وتروح تمشي الراقصة بخفّة وسط جموع المعجبين، كما لو أنّها حيّة تسعى.. تُرهبهم وتُمتعهم في الوقت نفسه.
في رقصة “الكدرة” المغربية يُستخدم إيقاع مضبوط، يتململ على عزف نوتاته جسد الراقصة التي تكون غالباً عازبة أو مطلّقة (نادرا ما تكون متزوّجة، إذ يُفرض عليها تغطية جسدها). يُعهد بإعداد الراقصة وتزيينها إلى امرأة ثانية تُسمّى “الوصيفة”، وهي الخادم أو (المعلّمة) باللهجة المغربية.
كشف الجسد
تتلوّى راقصة “الكدرة” كاشفة عن تضاريس جسدها بتأنٍّ وبخطوات محسوبة. تدخل برهبة إلى محراب “الكدرة”، وكلّما كان الإيقاع مرتفعاً، وجدت الراقصة مساحات سانحة للتعبير “الكوريغرافي”. تقوم بذلك وهي مغمضة عينيها، لا تفتحهما إلا وفق القدر اللازم الذي يمكّنها من رؤية ما يدور حولها، أو تدور هي حوله. فضلاً عن أنّها تحرّك أصابعها بطريقة منسجمة مع حركات الذراعين والتلويح بالضفائر.
تتحرّك الراقصة حافية القدمين بأصابع متشابكة ورأس مائل منمّق بضفائر وجدائل مزيّنة بالحلي التقليدية. تتّجه نحو أفراد المجموعة الذين يزدادون تصفيقاً وحماسةً وحركةً، حتّى حين وصولها إلى حالة الوجد الصوفية، حيث تفقد إحساسها بالعالم المادي.
الإغواء والزواج
يسهم اللعب بالأصابع واليدين والعيون ونصف الجسد الأعلى في تحديد مهمة الراقصة، وهي في العمق رمز للأنوثة والخصوبة، بل وأداة من أدوات الإغواء، ودعوة غير مباشرة إلى الزواج. تقود الراقصة، التي يُطلق عليها في اللهجة المغربية الحسانية اسم “الكادرة”، تقود رقصتها حتّى الإعياء التام.
ولا تكتمل رقصة “الكدرة”، التي ارتبط اسمها بمنطقتي وادي نون ومحاميد الغزلان، وتحديداً لدى قبائل أعريب جنوب المغرب، لا ترتبط إلا بمكوّنات جمالية وتعبيرية أساسية، مثل الإيقاع، الذي تنتظم وفقه الأناشيد والأشعار وآلة النقر، (الكدرة – القدر) وهي آنية خزفية تستعمل في المطبخ المغربي، فضلاً عن فضاء اللعب المستدير (الكارة).
الشعر والرقص
يتميّز أداء هذا الشكل التعبيري الشعبي بأن تجلس النساء المتمرّسات، إبداعاً وأداءً، في شكل دائري متماسك الأطراف، يصفّقنَ تبعاً للموسيقى التي يحدثها القدر (آلة العزف)، يستهل النصف الأوّل من دائرة الغناء بترديد الثلثين الأوّلين من البيت الشعري، ويتمم النصف الثاني من الدائرة الثلث الأخير من البيت… وهكذا بشكل متبادل.
تجري العادة على أن تختتم رقصة “الكدرة” بالقفل، وهي نهاية تتّسم بالسرعة والشدّة، تتكوّن من ضمائر “هيا هيا” التي تعني: “هلمّوا..هلمّوا”، بمعنى: اخطبوا هذه الراقصة، سواء كانت فتاة عذراء أو امرأة مطلقة. وهذا هو الغرض الأساسي من هذا الشكل التعبيري الذي سحر العشّاق، من محليين وزوّار المنطقة الأجانب.
حركات ماجنة
وحين عاين الرحّالة الإنجليزي جاكسون مشهداً احتفالياً من مشاهد هذه الرقصة الشعبية، كتب قائلا: “تقوم الفتيات العربيات بالرقص بطريقة بارعة جداً، وخصوصاً نساء قبيلتي مغافرة وأولاد بوسبع العربيتين، فإنّني أتذكر أنّني أمضيت ليلة في ديارهم على أطراف الصحراء، عندما أرسل الشيخ في طلب ستّ فتيات ممشوقات شغلنَ إعجابنا حتّى الصباح، وهنّ يقمنَ بحركات تبدو ماجنة، غير أنّ تقاليد وعادات أهل البلد تستسيغ هذه الحركات الجريئة”.
“حح…يسكي”، هكذا يعبر الحسّانيون، أبناء المنطقة، عن إعجابهم بلوحات الرقص، التي ترسمها الأجساد في انحناءاتها وتمايلاتها.. ومع توالي الجولات تفقد الراقصة السيطرة على جسدها، لتجد نفسها في أحضان الوجد. هكذا يذوب الجسد القديم وينصهر في رحاب “عالم آخر”، ليبدأ جسد آخر جديد في الظهور، وهو جسد مليء بالطاقات، مرن ومطواع وقادر على صياغة مشهديته داخل “الكارة”، أي مساحة اللعب.
اختزال اللغة
الجسد في رقصة “الكدرة” يتجاوز بُعده الأنثربولوجي ليصبح جسداً للفرجة Corps de spectacle، على حدّ تعبير بارث. وهو جسد يكون موضوع فرجة تجاه الجسد الآخر (جسد المتفرّج). وهو بهذا يختزل لغته الخاصّة التي تكشف عن مفاتنه وتضاريسه الباعثة على الإغراء.
يقول الباحث في التراث الحساني إبراهيم الحيسن: “تعتمد رقصة الكدرة على خطاب الجسد كموضوع الإيماءة ومركز الرؤية ومصدر الحركة في الفضاء وتقدمه، في أهم تمفصلاته وتمظهراته ضمن سياقات كوريغرافية كثيرة ومتنوّعة يتكامل فيها الديني والجمالي والميتافيزيقي والأسطوري، بل وتقوم على سيميائية الرقص الفردي داخل حوار جماعي يعجّ بالكلمة والنغمة والحركة والقول الشعري”.
هو ذا الرقص في رقصة الكدرة، إبداع جمالي له لغته الكوريغرافية الخاصّة التي تضيع في متاهات الجسد وتنصهر داخل جغرافيته، وهي ذي الكدرة رقصة شعبية تسمو بالجسد وترقى به من مجرّد أداة غواية وإغراء، بمفهومهما الإيروتيكي، لتنخرط في عالم روحاني غامض يصعب فهمه وتفسيره.
الدار البيضاء ـ حنان النبلي- العربي الجديد