ترجل شاب دون الأربعين من سيارته الفورد وإلى جواره زوجته التي يغطي جسدها الثوب الأسود ودخلا شركة خاصة باستقدام العمالة الأجنبية في الدولة البترولية الغنية.. أهلاً بيك تفضل يا شيخ.. أيش تطلب؟؟ أبغي سودانية مليحة خادمة في المنزل للنظافة وغسل الملابس وحضانة الطفل ونظافته.. يعرض صاحب المحل صوراً لسودانيات.. هذه خريجة الجامعة الفلانية.. وهذه من خريجات الجامعة العلانية.. يسأل الخليجي الثري أيش تعني؟.. وتأتي الإجابة (جامعة مليحة).. يختار الخليجي الثري فتاة سودانية بعد دفع مبالغ مالية للشركة التي جاءت بها.. يأخذها مثل النعجة التي تشترى من السوق إلى المنزل لتواجه مصيراً قاتماً.. من العمل الشاق المضني والإساءات اليومية لها ولأبيها وأمها ووطنها.. تنام وهي تحتضن مأساتها.. تغفو قليلاً قبل أن تضربها السيدة الخليجية بحذائها.. لتنهض مذعورة ترتجف خوفاً من أن تذهب للسجن إذا تخلى عنها المخدم، وطالب بالأموال التي دفعها للشركة التي جاءت بالخادمة السودانية.. وتتعدد قصص وحكايات عن الأهوال التي تكابدها السودانيات في بلدان الخليج في السنوات الأخيرة ، خصوصا من “دبي” ، في بلدان أخرى فى الخليج وسفارات السودان في الخارج لا تستطيع رفع صوتها ولا الاحتجاج على سوء المعاملة التي تجدها العمالة في تلك البلدان خوفاً من الرئاسة في الخرطوم، وقديماً كان شعار السودانيين (لن نذل ولن نهان ولن نطيع…) أما اليوم فقد كتبت علينا الذلة والمسكنة.. كيف لا ويوم بعد غدٍ (الخميس) يقف بعض السودانيين في مدينتي “الرياض” و”جدة” وقفة احتجاجية عند سفارة بلادهم لوقف إرسال الفتيات السودانيات للعمل كخدم في المنازل، بعد أن تعددت الشكاوى من تعرض الفتيات السودانيات للذل والإهانة في السنوات الأخيرة.. الفقر ليس عيباً والكسب باليد ليس منقصة واليد العليا خير من اليد السفلى.. ولكن السودان الذي عانى من الفقر والجوع لسنوات طويلة ظل محافظاً على تقاليد موروثة.. وفي السنوات العجاف منتصف ثمانينيات القرن الماضي ضرب الجفاف بلادنا وجف الضرع ويبس الزرع، ولكن لم نشهد هجرة النساء إلى بلدان الخليج ولم تمتهن حتى ذلك الوقت نساؤنا العمل (خدماً) في المنازل.. ومع انتشار الجامعات وخروج الآلاف من الفتيات إلى الشارع بحثاً عن عمل شريف يسد الرمق ويستر الحال.. ومع تفشي العنوسة وسط الفتيات يتوجهن إلى دول الخليج هروباً من واقع البلاد المرير.. وانسداد حتى بارقة الأمل في إصلاح الأوضاع الراهنة، وتبدى اليأس والقنوط والحيرة وسط الشباب من الجنسين. في ظل هذا الواقع أصبح السودانيون والسودانيات مثل أي دولة مضطربة داخلياً.. مَن كان يصدق أن السوريات حفيدات “خالد بن الوليد” يسألن المارة في شوارع “عبيد ختم” والمطار ما تجود به النفس لإطعام الأطفال الهاربين من جحيم ما يحدث في “دمشق الفيحاء”.. ومن كان يصدق أن سودانية يتم ضربها بالسياط والأحذية.. وتفرض عليها غرامة من قبل الكفيل وتذهب إلى السجن حبيسة ودموعها تبلل ثيابها الرثة، ويعجز السودانيون عن دفع الغرامة الكبيرة التي فرضها عليها الثري الخليجي!!
ما يعيشه السودانيون اليوم هو ثمرة مُرة لتدهور الأوضاع الاقتصادية وفشل الساسة في الإنفاق على إدارة وطن (البي اسمو كتبنا ورطنا)، ولا يزال القادم أسوأ إن لم ينقذ قادتنا بلادهم من المصير الذي تنقاد إليه بسبب المماحكات الشخصية والخلافات التي أقعدت بالسودان والحرب التي تنهش في جسده حتى كادت أن تصرعه وتهوي به إلى الأرض.