استفزت قدرة احتمالهم الشحيحة الطلاب السودانيون في “داعش”.. حكايات أسر في محرقة الألم

تتأثر إنسانياً ونفسياً وأنت تشاهد مقاطع فديو أو صوراً على مواقع التواصل الاجتماعي، لأفراد من أسر الطلاب الذين انضموا لداعش أو حتى وأنت تسمع عن حالهم على لسان مقربين منهم أو أصدقاء لهم.. تقف أمامهم تواجههم وجهاً لوجه أو تخاطبهم.. هناك فرق.. قصص وروايات عديدة سمعتها من ذوي طلاب انتظموا مسيرة الهجرة لداعش، اختلفت هذه الروايات في بعض التفاصيل ولكنها اتفقت في الألم والحسرة التي خلفها رحيل أبناء ادخرتهم أسرهم (للزمن الصعب)، ولكنهم خانوا أمانة التكليف وغدروا بأسرهم وخلفوا لهم الوجعة ما بين أم مكلومة، وأب كسير، وأخ متألم.. صورة (مؤلمة) لامتزاج الحزن والغبن بالغضب والشعور والندم، ندم أسر فرطت في أبنائها غصباً عنها لصالح فكر ضال.. صور اجتهدت أن أنقلها كما رأيتها وأحسستها تماماً دون تدخل أو تحريف، علها ترسم المشهد الحزين كاملاً.
انضمام الطلاب لداعش.. أسر موجوعة حد الفجيعة
قالت لي “لم أحضر أو أستمع إلى ندوة حتى من أجهزة الإعلام من نحو عشرين عاماً، لقناعتي أن كل ما يقال بداخلها فقط (طق حنك)، لكنني لم أتمالك رغبتي في حضور ندوة حول التطرف الديني والغلو وظاهرة الانضمام لداعش، ليس لأهمية الأمر كما تعتقدون أنتم أهل الصحافة والإعلام، ولا لأنني طبيبة، وأن كثيراً من الذين “تدعوشوا” هم من أبناء جلدتي ثم إنني خريجة جامعة الخرطوم وليس مأمون حميدة، مما يحتم تعاطفي بشكل أكبر. كان حضوري إلى هذه القاعة لأطلع على أسباب مغادرة شباب أعرفهم كما أبنائي تماماً، بحكم علاقات العمل مع ذويهم التي تحولت إلى علاقات أسرية جعلتنا نعرف أدق تفاصيل حياتهم”… هذا حديث طبيبة أخصائية بمستشفى القلب كانت تجلس على يميني، تعرفت إليَّ عندما همت بالجلوس نادتني باسمي، فكنا نتجاذب أطراف الحديث والتعليقات حتى نهاية الندوة التي أقامتها جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا بإحدى قاعاتها التي ضاقت بالحضور، وأظنه بسبب أهمية الموضوع.. الطبيبة التي كانت على يميني عرفتني من على بُعد مقعدي على مجموعة من زملائها الأطباء والطبيبات يجلسون على مقربة منا، يعانون من انضمام أبنائهم إلى تنظيم الدولة، وأحدهم غادر ابنه عبر طريق آخر كما أنه ينتمي إلى جامعة أخرى.
تفحصت وجوه أسر طلاب داعش عن قرب وجدت جزءاً من ثوبي مبللاً بدمع خرج من عيني بلا استئذان.. كانت الوجوه كالحة مهزومة شاحبة تراها وكأنها ترغب في مفارقة الحياة أو تكاد تسمعها وهي تنادي الأرض أن تنشق وتبلع ما حولها.. كانت والدة إحدى الطالبات اللائي انضممن لداعش تداري عينيها بنظارة سوداء وكأنها لا ترى لوناً آخر لحياة فارقتها فيها ابنتها ذات العشرين عاماً فجأةً، لا بسبب قدر الموت للحياة الآخرة لكن بسبب حياة أخرى في بلاد أخرى اختارتها هي ولم يخترها قدر الموت لها.. طبيبة القلب قالت لي إن هذه الطبيبة المشهورة وزوجها أيضاً يعيشان أسوأ ظروف إنسانية، حيث تكاد تكون شبه معزولة عما حولها، وأنها شبه تركت العمل رغم أنها وزوجها من أكفأ الأطباء في المهنة وأكثرهم ارتباطاً مع الآخرين، ولهم علاقات اجتماعية مشهودة.
علمت أن مجموعة من الأسر التي ذهب أبناؤها إلى سوريا تكاد تكون فقدت الأمل في عودتهم، خاصة أنهم فقدوا الاتصال بهم تماماً، الأمر الذي زاد من الأزمة النفسية لكثير منهم.
مشاركة أسر “الدواعش”.. تحريك البركة الساكنة
أهمية ندوة العلوم الطبية أمس، أنها قد تكون بداية رمي حجر في بركة ساكنة، خاصة أن الجانب الرسمي في الدولة لم يتصدَّ بالقدر الكافي لمعالجة الظاهرة أو وضع خطة عمل أو إستراتيجية قصيرة أو طويلة لكيفية التحوطات ضد الخطر القادم الذي يحيط بشباب الوطن.. جامعة العلوم الطبية أخذت بزمام المبادرة في الجوانب العلاجية التي قطعاً تبدأ بالجوانب الإرشادية والتوعوية وتحليل وتشخيص الداء ووضع مقترحات الدواء، وستجدون رصداً كاملاً لذلك في موقع أخرى من الصحيفة.. غير أنني في هذه المساحة حاولت أن أرصد امراً آخر وهو الوضع الإنساني لأسر طلاب داعش، خاصة الذين كانوا حضوراً ليستمعوا لأسباب التغير الفكري وقوة تأثير داعش التي اصطادت أبناءهم على حين غرة.
في كافة الوسائل الإعلامية خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر آباء وأمهات طلاب داعش وكأنهم جزء من المشكلة.. كثيرون صوبوا سهامهم على الاسر واتهموهم بالاهمال وترك ابنائهم في السودان لتلقي التعليم الجامعي، وظلوا هم بالخارج في اوروبا او امريكا او الخليج، وان عدم التواصل والقرب النفسي جعل داعش تخترق هذه المجموعات خاصة أنها قادمة من بيئة مختلفة ثقافياً واجتماعياً ودينياً، لكن قد يكون هذا التفسير والتحليل يمثل الجزء الفارغ من الكوب لسبب بسيط، ان السرعة الرهيبة في عالم الاتصال والتواصل تجعل كل الآباء والامهات بعيدين إلكترونياً ورقمياً عن ابنائهم، لا فرق هنا بين طالب في جامعة حكومية ووالده غفير أو حتى عاطل عن العمل، أو طالب والده طبيب أو رجل أعمال يصل الجامعة بهمر. هذه الفجوة الرقمية جعلت كثيراً من الطلاب من غير العلوم الطبية ينخرطون ضمن صفوف داعش عبر ليبيا، الامر الذي يشير إلى تغير فكري كبير يحتاج إلى دراسة واعية وعلمية بدأتها جامعة مأمون حميدة عبر ندوة تسارع لها مجموعة من ألوان الطيف السياسي والفكري والمجتمعي والإعلامي، ويجب ألا تنتهي هنا في قاعة كبيرة.. لذلك اجد نفسي اختلف كثيراً من العلماء والمفكرين الذين تحدثوا عن التفكك الاسري كأحد عوامل ظاهرة الانضمام لداعش خاصة ان معظم الذين ذهبوا بل كلهم ينعمون بعلاقات أسرية لا تشوبها شائبة.
الانضمام للفكر الضال.. “الفقر” ليس متهماً
أيضاً أذهلني تفسير البعض أن الفقر كان من أهم انتشار ظاهرة التطرف، رغم أن كثيرين من الذين انضموا لداعش هم من أسر ميسورة الحال، ولا علاقة لها لا بالفقر ولا بالبطالة، وهذا ايضاً جعل البعض يرى في المنضمين أن ما يجدونه من نعمة في العيش وبطر، جعلهم يفكرون افكاراً شاذة تمثل مظهراً من مظاهر الترف الذي يعيشون فيه.. هؤلاء واولئك تنقصهم الرؤية التحليلية الصائبة.. وأظن ان ضعف تفسير انتشار الظاهرة حتى الآن وغموض أسبابها أهم ما جعل عدداً من اسر طلاب داعش حضوراً لندوة الأمس.
كان من الممكن أن تسكت إدارة جامعة العلوم الطبية عن الأمر، كما فعلت مجموعة من الجامعات الاخرى، خاصة وحكومية، خافت أن يصبغ عليها جامعة الدواعش، فرمت برأسها داخل الرمال لكنها في شجاعة اختارت أن تكون لها مسؤولية دينية واخلاقية ومجتمعية للمساهمة في الحل، ليس بالإجراءات الادارية التي تمثل جزءاً من منظومة لوائح الدولة، لكن عبر الدور الاعلامي والتنويري وهو الجزء الاهم الآن.. إذ إن المطلوب كيف نحافظ على الفكر المعتدل لدى الطلاب والشباب عبر الندوات والمؤتمرات واللقاءات المفتوحة، وكيف نقود حملات ارشادية لقبول الآخر ورفض التطرف ونبذ العنف وإعلاء الحوار في كافة مناحي الحياة.. وكيف يمكن أن نقدم لشبابنا القدوة الصالحة في العمل العام في جوء الإحباط والفوضى الدينية والأخلاقية والسياسية التي جعلت المجتمع يعيش حالة انفصام شخصية، بسبب ما يراه من تصرفات القدوة في المسجد والجامعة والعمل، لذلك أهم ما يمكن أن يقود إلى المعالجات غير النظرية، يكمن في نقد الذات أولاً ثم الإصلاح.
الدولة بكافة أجهزتها الرسمية والتوعوية بحاجة إلى محاربة الفكر التكفيري والخطاب المتطرف ليس الخطاب الديني فقط، بل حتى الخطاب المجتمعي والسياسي، فما نراه الآن من مكايدات سياسية ومحاولة القتل المعنوي للأشخاص هو جزء من التطرف الذي يقود إلى تطرف أوسع لأجيال تكره أن تكون ضمن مجتمع يتعالى فيه صوت الكراهية لمجرد الاختلاف الديني أو المذهبي أو السياسي.
دُهشت في الندوة من حديث البروفسور حسن مكي، الذي حاول المفاضلة بين انضمام الشباب إلى داعش أم إلى تجارة المخدرات، في إيحاء واضح بأن تنظيم الدولة الإسلامية أفضل.. ودهشت أكثر وهو يتوقع أن يرجع طلاب داعش إلى وطنهم السودان ليقودوا التغيير.
محاصرة الظاهرة.. محاولات رسم الطوق
يقول أحمد إدريس الدومة أستاذ علم النفس لـ”التغيير”، يجب الانتباه إلى أن الشباب لديهم احتياجات نفسية تتباين من فئة عمرية لأخرى، ويجب الانتباه ايضاً للأدوات التي تستخدمها داعش للوصول إلى هذه الشرائح، فإذا ما قارنا أدوات الاستقطاب نجد هؤلاء الطلاب جُندوا بأدوات استقطاب الأجانب الذين يقاتلون بجانب داعش، ونجدها متشابهة بل متطابقة، بمعنى أن ميدان هذه الأدوات ليس في السودان في الغالب، وذلك لأن هؤلاء الشباب لديهم أدوات تواصل مع مجتمعاتهم التي جاءوا منها، والذي يبحث كثيراً في هذه الجوانب غالباً ما يجد هؤلاء الشباب يتواصلون خارجياً اكثر من تواصلهم داخلياً، من خلال الوسائط التي ربما لم تتوفر هنا، مثال ذلك موقع التواصل “تويتر”، التواصل داخل المجتمع السوداني ليس كبيراً، وحتى طبيعة التواصل في الفيس والواتس ليست مغرية لهم، بمعنى أنها ليست أداة فعالة ترضي طوحاتهم وتشبع رغباتهم، ولا نستبعد التواصل المباشر وفي غاية السرية بالطبع وليس هو الأداة الفعالة، بمعنى أن أدوات الإقناع الداخلية ليست فعالة كما هو بالخارج.
ويوجد عنصر آخر فعال جداً في عملية الاستقطاب لهؤلاء الشباب، وهو عنصر ضعف الفكر الديني، مما يجعل الإنسان متنازعاً ما بين المكون المعرفي العقلي والمكون الوجداني “العاطفة”، بحيث ينزع الشباب إلى المكون الوجداني على حساب المكون المعرفي، أي ينفعل بالمواقف العاطفية دون أدنى دراية عقلية معرفية كافية، بالتالي هذا يفسر كثيراً من الحوادث.
وهناك جوانب أخرى يجب أن تتوفر من خلال بعض الرعاية الخاصة التي يحتاجها مثل هؤلاء الشباب، والتي يمكن ان تقوم بها مؤسسة صندوق رعاية الطلاب، كما أن هناك بعض الجوانب الادارية التي يجب ان تراعيها مثل هذه المؤسسات كالجوانب المتعلقة بالتواصل ومحاولة خلق علاقة مباشرة مع الطلاب وأسرهم، بتحديث إدارة تعنى بهذا الجانب، كما لا توجد دلالة كبيرة على أساس أن تذهب بعض الطالبات إلى القتال بجانب داعش، باعتبار الثقافة التي وفدوا منها، وأشار الدومة إلى ان طبيعة الحاجات النفسية تكون حسب نوعية الحاجة ويتم إشباعها، فالحاجات الدينية لا يتم إشباعها فقط بتوفر الأموال إلا أنها تشبع من خلال توفير مصادر المعرفة الحقيقية، وهناك دور ذوي الاختصاص من خلال فتح مساحة وقنوات للحوار مع هؤلاء الطلاب الموجودين، فلا يمكن ان ننتظر دفعة اخرى تذهب ونكون مكتوفي الايدي، لا بد من انفتاح حوار معرفي عقدي لتوضيح الافكار الحقيقية، وكذلك من خلال توفير مواعين لإشباع حاجات ورغبات الشباب المختلفة.
فالمشكلة الحقيقية تكمن في أن كثيراً من الآباء غير مدركين لحجم مشكلة ابنائهم، ولكنهم يشعرون بخطورة الموقف، وهذا القرار الذي جعلهم يأتون بهم للدراسة بالسودان، فالقصة ليست محصورة في هؤلاء الابناء الموجودين حالياً، المسألة تتجاوز إلى ابناء السودان الآخرين الموجودين بدول المهجر، خاصة في الدول الغربية، فالقضية ليست بهذه البساطة فلا يمكن ان نلجأ عند حدوث أي مشكلة إلى نظرية المؤامرة، فالأجدى أن نواجه المشكلة وفقاً لواقعها.

التغيير

Exit mobile version