تابعت على قناة الـ (بي بي سي) فيلما وثائقيا مدهشا تحت عنوان (قطر .. ثمن النهضة) ﻻتتجاوز مدته نصف الساعة، يتحدث عن آثار بيئية واستهلاكية تواجه مستقبل مواطن هذا القطر، ناتجة عن عمليات أسرع نهضة ربما يشهدها بلد في التأريخ، هذا البلد هو دولة قطر الذي يمثل السكان الأجانب فيه سبعة أضعاف سكانه الأصليين، ثلاثمائة ألف نسمة من مجموع عدد السكان الكلي البالغ مليوني نسمة، بدأ الفيلم الوثائقي بعرض منظر أطلال قرية متواضعة على ساحل البحر، كنموذج ممتاز لنمط سكن وحياة الأسر القطرية قبل عقود قليلة، الأسر التي كانت تتسور الشواطئ، وهي تعتمد على صيد الأسماك، ومن ثم أفضت بنا تراجيديا الفيلم إلى عرض النهضة المعمارية المذهلة والرفاهية العالية التي يعيشها القطريون اليوم، حيث قدر متوسط دخل المواطن القطري في العام بأكثر من مائة ألف دولار كأعلى معدل دخل للفرد في العالم، كما تقدم خدمات المياه والكهرباء والصحة والتعليم مجانا، مع إيجاد وظيفة مجزية لكل مواطن، على أن خدمات المياه والكهرباء تمنح للأجانب بتخفيض يصل إلى ستين بالمائة و.. و..
* غير أن مهددات من نوع آخر تواجه مستقبل هذه الإمارة الطموحة، على صدر هذه المعوقات تأتي عمليات تفشي الأمراض العصرية الناتجة عن الإفراط في تناول الوجبات الدسمة الغنية، مع قلة الحركة وبذل الجهد في أوساط مجتمع متخم بالرفاهية، على أن الأزمة التي نهضت عليها فلسفة الفيلم، الذي بدا أنه من إنتاج وزارة البيئة القطرية، هي بلا منازع تتمثل في عمليات الاستخدام المفرط للمياه التي تراجعت مصادرها الجوفية وتضاعفت كلفة صناعتها من تحلية البحار، فضلا عن ما تخلفه هذه الصناعة الباهظة من تدمير للبيئة والحياة البحرية، بحيث يستخدم الفرد القطري الآن من المياه سبعة أضعاف ما كان يستخدمه الفرد من الأسلاف، ويساهم عامل منح الخدمة مجانا في الإفراط في عمليات استخدامها !!
* ومن ثم وقف بنا الفيلم الوثائقي محتارا أمام جرأة طرح الحلول الفاعلة التي ستحد من الإفراط في عمليات استخدام المياه، ليس لأن القوم – قوم إمارة آل ثاني – ﻻيعرفون الحل، ولكن لصعوبة اتخاذ مثل هذا القرارات، فكل المعنيين والمستشارين يرون أن حل عمليات إهدار الماء يكمن في تقريش هذه السلعة وبيعها للمواطن بسعر يجعله يقتصد في استخدامها، غير أن هذا القرار، حسب مسؤول شركة كهرماء القطرية، ظل أمام الحكومة لسنين طويلة، وما لم يقله المسؤول القطري قاله الفيلم على لسان مستشار أجنبي بوزارة البيئة القطرية، على أن فلسفة الحكم في قطر والخليج والجزيرة العربية تنهض على تقديم الخدمات المجانية، مقابل عدم التدخل في شؤون الحكم والسياسة، ذلك مما أطلق عليه الفيلم الوثائقي (بصفقة الحكم)، غير أن بعض الخبراء يرون أن الإمعان في توفير سبل الحياة السهلة يجعل المواطنين في المستقبل القريب يبحثون عن حقوقهم الصعبة في الحكم وممارسة السياسة والمشاركة في عمليات اتخاذ القرارات في بلادهم، فكانت نصائح الخبراء الإسراع في الذهاب في ثقافة فرض رسوم على الخدمات بالتزامن مع إتاحة فرص تدريجية في المشاركة في العملية السياسية !!
* ويا ترى هل في (بلاد النيل والشمس والديناصورات السياسية) تصلح مثل هذه الصفقات، من جهة الجماهير التي تنشد الحياة الكريمة ﻻ مشكلة، لكن من جهة النخب السياسية هنالك مشكلة، فبعض نخبنا هم طوال حياتهم على حالتين اثنتين، إما حكاما ويعملون للحفاظ على هذا الحكم بكل السبل، وإما أنهم فقدوا هذا الحكم ويعملون بكل السبل المشروعة وغير المشروعة للعودة لكراسي هذا الحكم، ﻻعتقادهم الموروث بأنهم قد بعثوا أصلا ليملأوا الأرض عدلا كما ملئت جورا.