الثلاثون من حزيران العراقي
(1)
يبدو أن العراق قد اجترح معجزة أخرى من معجزاته التي ظل يتحفنا به خلال العقود الماضية، حيث أنجز ثورته المضادة قبل أن ينجز الثورة. فما شهدته ساحات المدن العراقية الجنوبية، وتحديداً مراكز التجمعات الشيعية، حتى نكون واضحين، هو ثورة على ثورة لم تقم، وانتفاضة وقودها وقياداتها هي ممن يعترضون على نيل الآخرين لحرياتهم، وليس على ضيم أصابهم. ذلك أن القوى التي يمثلونها هي التي تهيمن على البلاد، وتنال نصيب الأسد من ثرواتها وسلطانها. فثورتهم، مثل ثورة أصحاب هتلر، هي ثورة من يرى أن من يمتهن القهر باسمهم قد قصر وفرط.
(2)
معلوم أن المناطق السنية في العراق كانت قد شهدت مع نسمات الربيع العربي انتفاضات حاشدة تطالب بالحقوق. ولكن تلك الانتفاضات لم يتم الاعتراف بها، وإنما وصفت بأنها غطاء للإرهاب، وعودة للبعث البائد. وعليه استخدم معها حكم المالكي القمع، مما فجر العنف المضاد، وساهم في انتصارات داعش. وقد فرضت هذه الانتصارات بدورها انكسار نظام المالكي وعنجهيته، وأجبرت معسكره على التضحية به حتى لا يخسر كل شيء.
(3)
ولكن جهات كثيرة داخل ذلك المعسكر لم تكن راضية عن هذه التنازلات (الشكلية في الغالب)، وطفقت تروج لنظرية المؤامرة بصورة مرضية، حيث انتشرت في الخطاب الموالي للنظام مزاعم مضحكة عن وقوف أمريكا وراء، داعش! بل بلغ الأمر أن ما يسمى بالحشد الشعبي فسر هزائمه أمام داعش في تكريت بأن الطائرات الأمريكية، التي كانت تقصف خطوط داعش، وما كانت القوات والميلشيات الحكومية لتنتصر في تكريت بدونها، بأنها ألقت بإمدادات الأسلحة للدولة الإسلامية!!
(4)
نسب كثيرون كذلك انتصارات داعش وانهيار الجيش العراقي إلى فساد مؤسسات الجيش والدولة. ولكن بدلاً من النظر إلى لب المسألة، وهي أن الفساد جزء من آلية السيطرة للأوليغارشية المهيمنة والموالية لإيران، نسب الخطاب الشيعي الفساد إلى من ليس بيدهم من الأمر شيء. فالمعروف أن النظام العراقي طفق يستميل مجموعات وأفراداً لا يمثلون العرب السنة، وذلك بالإغراء بالمال والمناصب والتلاعب على الخلافات العشائرية وغيرها، حتى ينقادوا للفئة الحاكمة ويتغاضوا عن حقوق طائفتهم. وهكذا كل فئة باغية، تجمع إلى الظلم والفساد والإفساد، الكذب والتضليل.
(5)
من هنا يمكن تفسير التحركات «الشعبية» الأخيرة في الساحة الشيعية على أنها تحركات ذات طبيعة فاشية، تشبه تحركات الصرب في البوسنة والهوتو في رواندا، دوافعها ليست ثورة على ظلم وقع، بل تحرق إلى ظلم وقمع الآخرين. وتشبه كذلك التحركات ما سمي ثورة الثلاثين من يونيو في مصر، وهو تحرك قام على الكذب والبهتان من جهة، وعلى الحقد والغلو من جهة أخرى. فقد ثار أولئك على وضع ديمقراطي كانت فيه الحرية للجميع، وطلبوا وضعاً أصبحت حريتهم فيهم أقل، فقط مقابل أن يحرموا الآخرين حرياتهم وحقوقهم، فكانوا كمن جدع أنفه نكاية في وجهه.
(6)
لهذا فإن إياد علاوي على حق حين وصف ما حدث بأنه تمهيد لدكتاتورية جديدة. ذلك أن من قادوا هذه الثورة المزعومة كانوا على رأس من أيد طغيان المالكي، وغير مستبعد أن يكون حركهم من وراء ستار. وقد كان رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي على حق كذلك، حين خوف من استغلال هذه الهبة (وكان هو وحلفاؤه في نظام الكهانة أول من استغلها!) من أجل فرض أجندات حزبية، والتمهيد لحكم الميليشيات. ومن المؤكد أن ما خاف منه العبادي وخوف منه سيكون نتيجة حتمية للتطورات الحالية. وهذا بدوره سيشعل حرباً أهلية لا نهاية لها.
(7)
الجانب العربي السني في ورطة لا تقل حجماً عن ورطة العبادي ورهطه. فقد قاد الانتفاضات السنية كذلك فئات متطرفة إقصائية الخطاب والتوجه. صحيح أن الغضب الشعبي على من يدعون تمثيل السنة من «المعتدلين» مبرر، ولكن الحل لا يكون بتبني خطاب عدواني إقصائي، يخيف الآخرين ولا يخدم قضية التعايش على أسس العدالة والاحترام المتبادل. ولكن هذا لم يكن مبرراً لرفض الحوار من قبل المالكي وأنصاره من دواعش الشيعة.
(8)
في العراق كما في غيره من الدول العربية، لن يكون المخرج بالتطرف والتطرف المضاد، لأن في هذا مهلكة الجميع. ولكن هنا كما في أمكنة أخرى، فإن التطرف هو الغالب، وقد نضح الإناء العربي، بل فاض للأسف، بكل ما هو قبيح ومنكر من الحقد والبغضاء بين أهل كل بلد. ولعل هذه التطورات ستأخذ مجراها كما هي سنة الله في أماكن أخرى حاضرة وسابقة، حتى يذوق أهل البغي وبال أمرهم وتفضي الأمور إلى صلاح، ولكن عبر طريق البغي الانتحاري الطويل بدلاً من طريق العدل والإنصاف القصير. وقديماً قال أسلافنا، إن الظلم مرتعه وخيم.
(9)
لقد طرحت الثورات العربية أمام الجماهير خيار الحرية للجميع. ولكن من في قلوبهم مرض لم يرفضوا هذا الخيار مقابل «الحرية لنا فقط»، ولو فعلوا لكانوا ظالمين. ولكنهم قالوا: لا حرية لغيرنا حتى لو بقينا كلنا عبيداً لطاغية أشر. إنه حقاً عصر الظلام في العالم العربي. ولكن لكل ليل صباحا.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
د. عبدالوهاب الأفندي