صعب أن يدعي أحد أنه ظل ينشط في الكتابة على طريقة (جرس التنبيه)، إلاّ أنني أظن في ما يلي موضوع إصلاح الخدمة المدنية وتطويرها وتشذيب قتادها، كنت ذلك (الجرس)، إذ أن قناعة تتاخم اليقين ظلت ولا زالت تُهيمن على جوانحي وتسيطر على عقلي بأن الخروج من عنق الزجاجة في ما يخص تطوير البلاد وتنميتها ورفاه العباد واستقرارهم، والقضاء على الفساد، وإقصاء (الفاسدين)، لن يتم ما لم تُصلح الخدمة المدنية.
للأسف، ظلت الحكومة تسد أذنيها لكي لا يزعجها (رنين) جرس الخدمة، وهكذا تفعل إلى اللحظة، لكن ها هو البرلمان ممثلاً في رئيسه (إبراهيم أحمد عمر) يأتي إلينا فاتحاً أذنيه بعد أن أزاح عنهما وقرهما، ليقول: إن تفكيك الدولة العميقة، يحتاج إلى سياسات رشيدة.. ويعترف بأن التعيين السياسي أضعف الخدمة المدنية.
لا شك، أن رئيس البرلمان يعني بالدولة العميقة، ما عرف بسياسة التمكين في (الخدمة المدنية) وهذا ما جعله يعترف بأن التعيين السياسي هو الذي أضعفها، وربما لم يشأ أن يقول (أفسدها).
بطبيعة الحال، فإن الخدمة المدنية منوط بها تنفيذ السياسة العامة للحكومة، وهي بهذا الوصف لابد أن تكون هيئة مهنية بعيدة عن ضغوط الحكومة، أو الهيئات السياسية الأخرى (المعارضة) مثلاً، كما أن من حقها إبداء الرأي وخدمة المواطنين بموضوعية، وفقاً للقوانين والقواعد ذات الصلة، وبالتالي وكي نضع الخدمة المدنية على الحياد والمهنية فلابد من ضمانات للموظفين بأن لا يتعرضوا لأي ابتزاز من السياسيين ولا الحكومة، وأن يتم التعيين فيها والترقية والنقل وحقوق المعاشات والضمانات الاجتماعية وفقاً للمؤهلات الأكاديمية والكفاءة العملية والخبرات المهنية دون النظر إلى الانتماءات السياسية والدينية والعرقية والجهوية، على أن ترتبط شؤون الخدمة المدنية ارتباطاً وثيقاً بالميزانية العامة للدولة، فتكوين الوظائف العامة هو عنصر مهم من عناصر الميزانية التي تمثل قيداً على تنظيم الخدمة المدنية.
ذلك جانب، أما الأهم منه، فهو إشارته إلى أن (التعيين السياسي) أضعف الخدمة المدنية وهذه الإشارة هي مربط الفرس في عملية الإصلاح لكنه لن يكون (وثيقاً) إذا ما عنى رئيس البرلمان بعبارة (سياسة رشيدة) التي ألحقها به الإبقاء على (المتمكنين) الذين يمثلون (الدولة العميقة)، وهؤلاء ظلوا يستغلون الوظيفة العامة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تحقيق مصالحهم الضيقة من أجل الحصول على منفعة مادية أو معنوية، وهذا الاستغلال يعتبر البوابة الرئيسة للفساد الإداري الذي يترتب عليه، نهب المال العام، وقبول الرشى والاختلاس وتعطيل التنمية وضرب القيم الأخلاقية للمجتمع والدولة، وبالتالي إفشال برامج وخطط التنمية البشرية والاقتصادية.
لن نكون منصفين إذا ما طالبنا بإبعاد واستبدال كل طاقم الخدمة المدنية الراهن، ولكن لن نألو نطالب باستبعاد أي موظف إذا ما ثبت أنه لا يمتلك المؤهلات الأكاديمية والخبرات اللازمة، أو هؤلاء الذي جيء بهم بقرارات سياسية، أو أي أحد آخر أدين إدانة قضائية قطعية بالفساد. وهذا هو من وجهة نظري معنى السياسة الرشيدة لإصلاح الخدمة المدنية.