منذ سنين طويلة لم أعد أعيش لنفسي، بمعنى أنه «ما عندي نفس» لشيء معين، فلم أعد أشتهي شيئاً لنفسي، سواء أكان مأكلا أم ملبسا، لأنني قررت أن أعيش لعيالي ولأهلي عموما، وعندما كانوا صغارا كانت المتعة التي لا تعادلها متعة عندي، أن أدخل البيت حاملاً بعض الأشياء التافهة التي يعشقها الصغار، ولكنني لا أتمادى في الهدايا والعطايا، وأعيد على مسامع عيالي بين الحين والآخر: اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم، ولكن ابنتي المتوحشة مروة كانت لا ترحمني إذا رفضت لها طلباً، وخاصة إذا تعللت بارتفاع سعر الشيء الذي طلبته: ماما لماذا لم تختاري زوجاً ميسور الحال؟ فأرد عليها: لو فعلت ذلك لما كنت أنت مروة ابنة ذلك الميسور الحال، ولم تكن تفهم قصدي وتردد: حكم القوي على الضعيف، أو ربنا على المفتري، والمقصود بالمفتري هو أنا، في حين أن صاحبة اللقب عن جدارة هي أمها!.
وما من شيء كان ينرفز حبيبتي مروة مثل قولي أمامها كلما عايرتني بمحدودية مواردي المالية: أوضاعنا المالية والحمد لله على أحسن ما يرام، وكلها كم سنة -إذا مد الله في أيامي- وأكون من يخرجون الزكاة عن أنصبة حال عليها الحول! وقد عادت مروة ذات يوم من المدرسة مبتسمة منشرحة الصدر ومددت لي قصاصة من جريدة أمريكية وهي تقول: معك حق يا بابا، لا ينبغي أن نيأس من رحمة الله.
كانت في القصاصة حكاية المتشرد الأمريكي ستيفن كنت، الذي رأى شرطيا يقترب منه ففر هارباً وهو يحسب أن الشرطي بصدد اعتقاله، ولكن الشرطي مد إليه ورقة مالية من فئة المائة دولار وهو يقول: أرجو ألا تنسانا.. فنحن نبحث عنك منذ عدة أيام بعد أن توفي عمك تاركاً لك خمسة ملايين دولار، وقد اشترى ستيفن تذكرة باص وذهب إلى ولاية أوهايو حيث تسلّم الثروة! قلت لمروة إن كل شيء جائز ولكن ليس بين أقربائي الأموات أو الأحياء، من يبلغ مجموع كريات الدم الحمراء والبيضاء عنده خمسة ملايين، بل لو باع جميع أقربائي كلياتهم لما عادت عليهم بخمسة ملايين ليرة لبنانية، لأن معظمهم يعيش على كلى صلاحيتها منتهية.
وتذكرت أيام العز وكيف أنه عندما حان موعد دفع مهر زوجتي الأولى (والأخيرة حتى إشعار آخر)، كان رصيدي في البنك نحو ألف جنيه سوداني، وكان الجنيه السوداني وقتها يعادل الدولارين، ولم يطاوعني قلبي على إهدار تلك الثروة الضخمة على فتاة لتصبح زوجتي وتتحكم بحياتي، وسألت نفسي: هل المسألة مُستاهلة ألف جنيه جمعتها عبر السنين، تطير من بين يديك يا أبا الجعافر خلال دقائق؟ ولكن ما ذنب تلك المسكينة؟ طيب، وما ذنبي أنا حتى يستولي أهل زوجتي على كل تلك الثروة الهائلة ثم أتحمل أنا نفقات إعاشة بنتهم إلى أقرب الأجلين الموت أو الطلاق؟
لعنت إبليس وسحبت «أموالي» من البنك، وحسبني كل من قابلني وأنا أحمل المظروف الذي يحوي تلك الأموال مصاباً بمرض عصبي، لأنني كنت أرتجف لأن إبليس قال لي إن المافيا الإيطالية جاءت إلى الخرطوم لتجردني من ثروتي، واخترت «تاكسي» سائقه جربان بعد أن قدرت أنني أستطيع أن أتغلب عليه إذا اتضح أنه من المافيا، وحاول السطو على نقودي، وفور عودتي إلى البيت أرغمت أمي على الذهاب فوراً إلى أهل العروس لتسليمهم المهر خوفاً من أن أغير رأيي في شأن الزواج إذا بقي المبلغ معي بضع ساعات، وحصل خير وتزوجت، وكان أجمل ما في الموضوع أن ذلك كان من حر مالي: لا قرض ربوي ولا قرض حسن. كيف يتزوج إنسان بقرض بنكي على ما في ذلك الإحساس بأن الزيجة بأكملها مرهونة للبنك؟
jafabbas19@gmail.com