إن كان زرياب فناناً ولد من رحم العود، فإن حافظ عبدالرحمن مختار تخلق في رحم الفلوت. وتعشق حافظ الفلوت حتى قال عنها في مقابلة مع {الشرق الأوسط} اللندنية في فبراير الماضي: علاقتي مع آلة «الفلوت» نبعت من إحساسي العميق بأنها أصبعي السادسة. ويقال إن واحدة من أعمال حافظ اضطرته لأن يغلق نفسه داخل غرفته بالمنزل لأكثر من ستة أشهر حتى ظن ذووه أنه فقد عقله. لكن حافظ يقول لـ(التيار): المسألة ليست بتلك الطريقة.. الصحيح أنني أعشق الهدوء ولديَّ عالمي لوحدي وأعيش في مكان أقرب للصومعة مختلياً إلى أدواتي وموسيقاي.. وربما من هنا تواترت تلك الروايات وعليها ينسجون. واعترف أنني منذ صباي لم أكن متفوقاً في الدرس، لكني برعت في الموسيقى وكرة القدم ولما استويت على أعواد سني الشباب فارقت الكرة وارتضيت بالموسيقى وحدها عشقاً لا ثاني له.
المزمور الأول
كأنه يصيح: هذه لُغَتي.. وهذا الصوت وَخْزُ دمي.. تعلق قلب الموسيقار حافظ عبدالرحمن بالفلوت وصنع بها وعبرها أسطورته ومكانته الرفيعة في سلالم الموسيقى السودانية، وتحول التعلق لما يشبه الوله حتى عرف بها وعرفت به تماماً، كما ولع برعي محمد دفع الله العود فصار (عواداً) لا يقارعه في ضرب المزاهر سوى بشير عباس ولاحقاً عوض أحمودي وكما برع السمندلي سعد الدين الطيب في الأورغ عندما يهش موسيقاه زفزافة من لدن أصابعه العاجية البيضاء والسوداء على السواء، لتخلب أذهان السامعين في حفلات (الباشكاتب) محمد الأمين وعقد الجلاد بشكل يصعب أن يضارع ولا يملك معها (السميعة) التي تضج مشدوهة سوى أن تقول في انبهار (الزول دا خواجة عديييل)!!. ولا ننسى أفاعيل السوليست الساحر محمدية على أوتار الكمان بطريقة تجعله يكاد ينطق بلسان مبين.
وللصفارة أو المزمار حظوة في حكايات التاريخ ورواياته القديمة وعلى الدوام ارتبطت أنغامها بالرعي والوديان، إذ ينادي بها الراعي الصالح على قطيعه حتى لا يضل ويذهب قصياً فتأكله الذئاب ويظل الراعي يعزف ألحانه بصوت شجي حتى يستطيب لها المرعى وتستكين. وفي مسرحية “مجنون ليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقي يستفيق قيس بن الملوح (مجنون ليلى) متوهماً بأن صوتاً ينادي حبيبته فيترنم (ليلى مناد دعا ليلى فخفَّ له /نشوانُ في جنبات الصدر عربيدُ / ليلى، انظري البيدَ هل مادت بأهلها/ وهل ترنّم في المزمار داود). وانظر كيف عذب رجع الصدى المحزن بالذكريات، مجنون ليلى فهل بإمكان أحد أن يصمد أمام سطوة أنغام اليراع المثقب؟.
الناقد والباحث الموسيقي مصعب الصاوي لايفتأ يذكر لـ(التيار): أن حافظاً لمن الصادقين في الموسيقى، ويعده سليلاً للمدرسة العفوية في الموسيقى البحتة ورغم دراسته في كلية الموسيقى والمسرح جامعة السودان حيث نال إجازتي البكالوريوس والماجستير. ورغم تخصصه لكنه ظل أثيرًا بإحسان للمدرسة العفوية واحدً من أولئك الذين لم تؤثر دراستهم النظامية أو تلحق الضرر بعفويتهم وفطريتهم.
المزمور الثاني
تعد مقطوعته الموسيقية المرفأ القديم أول إبحار موسيقي خاص في حياة حافظ عبد الرحمن، يعبر بها إلى أذن مستمعي الإذاعة والتلفزيون، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث أدخلها الإعلامي الشهير محمد سليمان شعارًا لبرنامجه ذائع الصيت (دنيا دبنقا) ثم توالت فصول الإبداع على حافظ فأهدى المستمع السوداني مقطوعات باذخة ك(همس الأنامل) و(ضوء الشموع) و(إيقاع الجبل) و(بين الذكرى والشجن) و(حتى نلتقي) حتى بلغ ذروة سنام إبداعه بمقطوعته الشهيرة “الأيام الخالدة” التي جاءت مقاطع لحونها كأجمل ما يكون وما أن يذكر اسم حافظ عبد الرحمن حتى يشار إلى مقطوعته الخالدة، فلماذا هي بالذات دون غيرها من المقطوعات الأخرى؟.
وعند (الأيام الخالدة) يقف حافظ في مقابلة مع صحيفة (العرب) اللندنية في 2010م ويضغط على مفرداته قائلاً :” دائماً ما يكون في حياة كل فنان الذروة، التي يكون فيها شكل من أشكال النضج، رغم أنني أعتقد أن مقطوعاتي جميعها مرتبطة ببعضها البعض، إلا أن مقطوعة الأيام الخالدة ما إن تم تقديمها حتى لقيت عشقاً معيناً عن الإنسان السوداني، وبها شكل من الحزن، والإنسان السوداني بطبعه تستدر دمعته أكثر من ضحكته، فمن السهل أن يبكي أكثر من أن يضحك، ففي دواخله أشجان وبعض الصعاب في التكيف مع الشيء العاطفي خارج نفسه. المسألة هنا وجدانية، والوجدان ليس له علاقة بالعشق والعاطفة، الوجدان مربوط بشخصية الإنسان القادر على التنوع من أجل الاختيار، والاختيار ليس للجمال الظاهري، بل الداخلي. نحن نحاول أن نطوّر هذه الفنون وخاصة الموسيقى تحديدًا”.
المزمور الثالث
ولعل حافظاً أبصر بعين الحقيقة وملأ كلتا يديه بالأثر وأدرك أن مقاطع الشجن تكون أكثر جذباً وألقاً لأذن المستمع من الموسيقى ذات المقاطع المرحة نسبياً ربما لأن الإنسان عندما كانت طينة من حمأ مسنون أمطر عليه مطر الحزن أربعين عاماً بينما أمطر عليه مطر السرور لعام واحد كما تقول أسافير الأولين والكتب القديمة، لذا غالباً ما تلقى الإنسان كثير الحزن قليل الابتسام.
وربما نفث في روع حافظ أن السودانيين لم يكتب لهم طيلة سنينهم التي تصرمت بعد نيل الاستقلال أن يتمتعوا ببعض من العيش الرغيد أو الحكم الرشيد فجاءت ترانيمه تعبيرًا صادقاً عما اكتحلت به المآقي وماجت به الصدور .
وكثيراً ما تحس في موسيقى حافظ الشجية محاولات مضنية لاستعادة أحلام شاردة مثلما “كانت إيقاعات موسيقى الجاز رمزًا للحنين للأوطان المجهولة مفعمة بالحزن ونشدان ما لا يدرك” كما قال فوزي بشرى في تقريره الباذخ عن فوز أوباما بفضائية الجزيرة؛ ولا غرو فالموسيقى هي لسان حال المجتمع وسره الذي يكاد يخيفه حتى على نفسه.
المزمور الرابع
مع عبقري الموسيقى السودانية الراحل محمد وردي وقف حافظ ندًا قوياً لحنجرة وردي الذهبية وطوَّع أنامله الساحرة ليموسق أعذب الألحان و(الصولات) التي اتحدت مع صوت وردي الندي ومدارات توزيعه الموسيقي الأسطورية وتجلت قدراته الاستثنائية في معية شاكر عبدالرحيم وساطور وعصفور وحرقل وغيرهم لتسحر كل من نضر وجهه واستمع لها كفاحاً أو تسجيلاً بعد حين على غرار ما صنعت موسيقى (أورفيوس) في الميثولوجيا الإغريقية إذ كانت موسيقى صوته وقيثارته من العذوبة بحيث كانت تتبعه الحيوانات والأشجار والأحجار، وتتوقف الأنهار عن الجريان كي تستمع إليه. وتحتفظ ذاكرة جمهور المستمعين لحافظ ب(صولات) مدهشة لرائعة وردي (لو بهمسة). (للذكرى يَدَيْنِ خفيفتين تُهَيِّجانِ /الأرضَ بالحُمَّى . وللذكرى روائحُ زهرةٍ/ليليَّةٍ تبكي وتُوقظُ في دَمِ المنفيِّ/حاجتَهُ إلى الإنشاد). كما ينشد محمود درويش في جداريته العظيمة.
وقديماً قيل إن بشير عباس كان يجتهد مع فرادة ألحانه في مجاراة عذوبة أصوات البلابل بالعود لكن ريثما تبدأ ذوات الأصوات الملائكية في التحليق بعيدًا يتدخل بشير لاستعادة السيطرة وقيادة الأغنية بالصفارة الشهيرة ولطالما انتجت تلك المباراة الرائعة أعمالاً لاتزال راسخة في الأذهان ولعل تلك المباراة ما جعلت الباشكاتب محمد الأمين وهو الضليع الغريق في الموسيقى والغناء يشير إلى أن نغمات الصفارة هي الكائن الأجمل في موسيقى بشير .
المزمور الخامس
وينسب الفضل لحافظ في هز عروش السائد، وربما لم يكن بحاجة سوى لخفقة نورس ليحمل الأذن السودانية على الانتباه إلى الموسيقى البحتة غير المصحوبة بالكلمات وتلك المسألة بالغة الصعوبة في هذه البقاع التي تعشق الكلمات المموسقة، وفي إحدى مقابلاته اعترف حافظ صراحة أنه بات في غير حاجة لأشعار أو كلمات ليقيم عليها صروح موسيقاه، وأن تجاويف “فلوته” النغمية تغنيه تماماً عن الحاجة إلى أبيات الشعر والقصيد مكتفياً بلغة حروف الموسيقى السبعة. ويرى مصعب الصاوي أن حافظ تميز بالفعل برفقة وردي لكنه كان يفضل على الدوام أن يقدم نفسه موسيقاراً وأن مشروعه الرئيس يقوم على تقديم صنوف الموسيقى البحتة، قاطعاً الطريق أمام كونه عازفاً مكملاً لأوركسترا الفنانين. ومكنه اصطباره ذاك أن يتبوأ مكانته في سياق الواقع لأروقة الإبداع بالسودان بـ(81) مؤلفاً موسيقياً من مؤلفاته الخاصة عبر فرقة موسيقية قوامها (22) عازفاً محترفاً.
المزمور السادس
للبيئة سطوة وثمة تأثير لا يرد ولا يزول مثل وشم في الهوية لا تبددها الرياح.. لذا عاونت تنشئة حافظ في سني زمانه الأول في وديان وكثبان كردفان (الغرة) بمزاج أهلها المعتدل والفائض بالحنان في طبع بموسيقاه بالألق الكردفاني المضمخ بإيقاعات المردوم والتم تم والجراري وغيرها التي تألقت في أغنيات عبدالقادر سالم وعبدالرحمن عبدالله وإبراهيم موسى أبا وآخرين.
ومن الغرائب أن حافظاً أبصر النور في مدينة رشاد التي لم يرها كما يقول ضاحكاً لـ(التيار): والدي كان كثير الترحال من مكان لآخر بحكم عمله معلماً ثم ناظرًا ومفتشاً تربوياً بكردفان ودارفور، لكنه لم يعد لرشاد مرة أخرى لتكتحل عيني بها، لكني لازلت احتفظ لنيالا بوقع خاص في دواخلي.
وعن أثر البيئة أو العادات والتراث في مقطوعاته يقول في مقابلته مع (الشرق الأوسط) التي مر ذكرها :” إنها تترجم في شكل رقصات متباينة مثل رقصة الكمبلة في جبال النوبة، ورقصة الكاتم في جنوب دارفور وغيرها، حيث إن هناك الكثير من الرقصات الجماعية الجميلة مع الصفقة، إذ تكتنز شيئاً من الموروث والعادات والتقاليد، وهنا تدخل آلة الصفارة لتضيف لوناً ونكهة مغايرة لتكتمل الصورة الجمالية للرقصة”.
ويرى الصاوي أن حافظ أفلح في نقل أنغام وإيقاعات غرب السودان وكردفان على وجه خاص إلى الوسط وحولها بمثابرته واجتهاده إلى حقيقة وجدانية ماثلة ليس هذا فحسب، بل تخطى ذلك بأن أصبح مؤسسة ناقلة للموسيقى السودانية إلى الخارج وشهدت له مسارح طوكيو وباريس والرياض والقاهرة وغيرها أمسيات لا تنسى.
ويضيف الصاوي: إن لحافظ ميزة إضافية إذ لم يقف عند حدود كونه موسيقارًا يوقع ألحانه على المتوفر من آلات النفخ، بل أضحى صانعاً ومبتكرًا لآلات موسيقية لتعطيه ما يرغب في تدرجات لحونه الساحرة.
ويشير الكاتب الصحفي أحمد حمدان، إلى أن مواسم الرحيل عند العرب الرُحل أو تلك التي تسمى عند البعض ب(النشوق والمووطاه)، باعثة للحنين والشجن في نفوس الراحلين. ويرتبط الرحيل بموسم الخريف، حيث الخضرة والطبيعة الساحرة الخلابة، وبينما الرعاة يسيرون خلف قطعانهم تجدهم يدندنون بأغانٍ مختلفة بإيقاعات توازي وقع أقدام قطعانهم التي في أثرها يسيرون، فتسمع (الواواي) ينطلق من حناجر رعاة الإبل حينما تسير بهم خبباً، وأصوات (أم زمبارة) تلامس الدواخل قبل المسامع، وتثير بصوتها الطروب كوامن الشجن في النفوس. وحينما يصل (المرحال) إلى مبتغاه، والذي يشترط أن يكون في مكان مخضر شاسع واسع لا زراعة حوله، مكان لا يصلح إلا للرعي.
وهناك يحطون ركابهم، ويضربون خيامهم المعروفة ب(بيوت الشقاق) بكسر الشين. و(الشقاق) عبارة عن خيم مصنوعة من شعر الضأن، منسوجة بطريقة تقاوم الأمطار، تثبت على الأرض بالأوتاد. تسرح بعدها القطعان في الخضرة وتنتشر في الوديان، ومن خلفها الرعاة ينشدون ألحاناً شجية، ينعكس جمال الطبيعة عليها فتصبح أكثر شجناً. وفي الفرقان مكان الإقامة المؤقت يمارس العربان حياتهم المعتادة، يقيمون طقوس الأفراح والأتراح حال حدوثها.
ويمضي حمدان ليقول لـ(التيار): إن وحي الأغاني في أفراح ساكني هناك مستمد من تلك الطبيعة التي تمتد أمامهم.. خضرة ترعى فيها الإبل والضأن والأبقار.. رعاة الإبل يتحلقون حول (الجراري)، والنساء ينشدن أهازيج تصف الطبيعة وتمجد الفرسان وتفاخر بجودة الإبل، بينما يحمحم الرجال بالكرير بحلوقهم مع ضرب أرجلهم على الأرض، بطريقة تماثل وقع سير أقدام الإبل. ورعاة الأبقار في حلقات أخريات يرقصون (المردوم) بإيقاع متسارع يحاكي وقع خطى الأبقار.
المزمور الأخير
وليس هذا وحسب فالصوفية وإيقاعاتها وفيوضها الروحانية أثر لا ينكر في تلك البيئة، قطعاً تأثر بها حافظ وفي مقابلة مع (الوطن السعودية): قيل له إن من يستمع إلى موسيقاك يشعر أن ثمة تراتيل دينية تتدفق خلف بوحك المثير لشجن يتوقد منه وجد المريدين. هل تأثرت بأشعار العارف بالله (عبد الرحيم البرعي) الكردفاني؟ فرد قائلاً: تربيت في بيئة متصوفة نوعاً ما، وكان والدي يحرص على أن أصطحبه إلى حلقات الذكر وتحفيظ القرآن في كردفان. نعم في شخصيتي جانب صوفي لا أنكره”.
التيار