«أ»
قد لا تكون جزيرة هايتي الغافية في حضن البحر الكاريبي، تئن مثل تراب القبر الذي احتضن جسد السوداني الأصيل «فليكس دارفور» قبل قرن وتسعين عاماً، وهو في ترابه يلتقط من مشاش النجوم.. قصيدة للفيتوري:
أمس جئت غريباً
وأمس مضيت غريباً
وهأنت ذا حيث أنت
تأتي غريباً
وتمضي غريباً
تحدِّق فيك وجوه الدخان
وتدنو قليلاً
وتنأى قليلاً
وتهوي البروق عليك
وتجمد في فجوات القناع يداك
وتسأل طاحونة الريح عنك
كأنك لم تك يوماً هناك
كأنك لم تكن قط يوماً هناك
«ب»
في هذه البقعة الصغيرة، في قلب البحار والمحيطات، في هايتي التي تعيش دائماً محن الأيام القاسية، عندما ترتج الأرض، تهتز، تهتز معها وترتج عندنا هنا، ذاكرة تكاد لا تنسى أو تنسى ولا تكاد.
تطل كلَّما ذكر اسم هذه الجزيرة، تقفز وتطل بقوة ذكرى أحد أكبر رموز حركة الزنوجة والأفريقانية في العالم وأحد الآباء المؤسسين لها قبل ما يقارب القرنين من الزمان، وتستدعيه ذاكرتنا ويناديه تاريخنا، كأنه من رهو السحاب البعيد.
قد لا يعرف عنه الناس الكثير هنا، وقد لا يجدون ريحه كلما سمعوا أو شاهدوا شيئاً عن هايتي.. لكنه مثل الفنارات الضوئية، تتوامض في ظلام البحار والتاريخ والأزمنة.
قصة فليكس دارفور، كتب عنها قليل من الناس وبخلت مصادر التاريخ بالكثير عنه، ولو كانت خاتمته غير التي أنهى بها حياته، لأرّخ التاريخ المكتوب انتقاءً عنه ما لا يحصى.. لكنه كان قبساً من ضوء نافر لا يستكين وروحاً من الحرية التي يهاب نارها التاريخ نفسه.
في القليل من المدونات عنه، إشارات لامعة لرجل من بلدنا وأرضنا، ذاع صيته وكتب بروحه قصة بطولة ونضالاً تاريخياً، في أرضٍ بعيدة وقصيَّة ونائية.
«ت»
في ليلة كالحة السواد في الهزيع الأخير من القرن الثامن عشر ربما يكون عام «1796م»، كانت الريح تصفِّر وتولول في الأفق الشمالي لقرية صغيرة نائية في دارفور.. حيث تسلل بعض تجار الرقيق وتربصوا بطفل صغير كان وحده يتأمل نجمة مضيئة في السماء.. فاختطفوه من هناك.. وتلاشت.. وتلاشت.. وضاعت صرخاته في حلكة الليل البهيم.. لم يسمعه أحد. وكانت تلك أولى لحظاته في قبو الرق المهين..
ما بين الترحال واصطياد الأطفال.. مرت سنة وبضعة أشهر عندما حمل تجار الرقيق الأوروبيون مجموعة من الأطفال المختطفين واتجهوا شمالاً عبر الصحراء نحو مصر، والأطفال غرقى في دموعهم ودماء أرجلهم النازفة.
باعوا هذا الطفل الذي لم يكد يتجاوز الاثني عشر عاماً لجنرال فرنسي كان وقتذاك من قادة الحملة الفرنسية على مصر ومن أشد معاوني «نابليون بونابرت» الذي كان قد اجتاح مصر ودخلت خيله الأزهر.
كان الجنرال «أردوان» الذي استعبده، قد اعتبره أحد أهم مقتنيات متحفه المتحرك، ولم تشفع للجنرال الفرنسي الدماء الكاريبية التي زعم التاريخ أنها تجري في عروقه، ليرأف بالطفل الغرير.. وإمعاناً في إذلاله وسلخه عن جذوره لم يعبأ باسمه، فأعطاه اسم فليكس ليكون رهيناً وحبيساً في أسوار الثقافة الفرنسية التي كان يظن أربابها أنها ملكت وسادت العالم.. وهكذا فقد الطفل أصله وسُحقت هويته تحت حذاء الجنرال وصار اسمه الذي حفظه له التاريخ هو فليكس، وقد كان الاستعمار الفرنسي يمارس هذا النوع من الاختطاف ويعطي الأطفال الأفارقة أسماء فرنسية يجردونهم بها من أصولهم الأصيلة ومنابتهم الحقيقية لقطعهم تماماً عن جذورهم.. مثلما فعل الجنرال الفرنسي الآخر أتيان مع عبد السلام الصبي الجزائري الذي استرقه وأعطاه اسم «بانيه» وتلك قصة أخرى.
«ث»
عندما صحا ضمير الجنرال الفرنسي وقد داهمه المرض وخشي الموت، اعتق «فليكس» الذي كان قد تفتقت مواهبه وغرق في حبه للمعرفة والعلم وصار مهندساً، ولم يكن الفتى يعرف أبداً شيئاً عن نفسه ولا جذوره، سوى أنه سليل أفريقيا السوداء وربيب الثقافة الفرنسية، وظهرت اهتماماته الفكرية وتجلى التصاقه بالقضايا السياسية، وظل شعوره الذي نما في داخله بحقيقة أنه من ضحايا الرق وهو المحرك الأول لمفاهيمه ومعتقداته وهو في شرخ الشباب والصبا.. فامتهن الصحافة وكأنه كان كل يوم يبصق على وجه فرنسا التي ما أحبها يوماً.
وبالرغم من أن الأوساط الصحافية والسياسية والتيارات الفكرية الفرنسية في تلك السنوات الأولى من مفتتح القرن التاسع عشر كانت تتبلور وتجذب بقوة المبهورين والمؤيدين لها، إلا أن «فليكس دارفور» كان عقله في مكان آخر، لقد سمع في ذلك العالم البعيد.. أن دولة للسود من أمثاله قد نالت استقلالها..!! أين؟ في بطن البحر الكاريبي!!
«ج»
لقد نال الأفارقة هناك حريتهم في هذه الجزيرة عام 1804م. بعد ثورة العبيد الكبرى عام 1801م، فحزم فليكس أمتعته وصوّب بصره من على السفينة (Levielle) التي غادرت الشواطئ الفرنسية من ميناء أوبرانس، ونثر آهة غاضبة في الهواء وأشاح بوجهه عن فرنسا وغاب عنها للأبد.. وانخرط في هايتي التي وصلها عام 8181م في تيار التنوير والتحرر والانعتاق الذي كان يغلي، ودمج نفسه وهو بلا هوية ولا انتماء في النضال من أجل استكمال السكان الأفارقة حريتهم من المستعمرين البيض، وأصدر صحيفة باسم «المستنير الهايتي» وصحيفة «المواطن الصالح»، وذاع صيته هناك، ومُنح الجنسية الهايتية، وكانت هايتي وهي مستعمرة برتغالية أول بقعة سوداء تتحرر من جلاديها، كما كانت أول جزيرة يُساق إليها الرقيق الأفريقي عام 5051م، لكن أذناب الاستعمار كانوا هناك.. ولأن «فليكس دارفور» كانت له بقعة مضيئة مشتعلة في داخله تربطه بالسودان ودارفور.. لم يهدأ ولم يسكن.. واستمد فورانه الثوري من محنته.. وحسبه بقايا الاستعمار هناك خطراً داهماً عليهم.. فاغتالوه بعد محاكمته رمياً بالرصاص في 22/9/1822م بعد أربعة أعوام من وصوله وانطفأ وهجه هناك.
«ح»
وهكذا ضاع فليكس.. الذي لا يعرف هو من أين أتى بالضبط من بقاع دارفور، ولا يعلم أحد من هو وإلى أي مكان ينتمي.
ويقول الراحل السفير عبدالهادي الصديق في كتابه «السودان والإفريقانية»: «لقد ظهر فليكس دارفور في هايتي قبل ظهور سلفستر وليامز في ترينداد وماركوس غارفي في جامايكا وقبل سقوط ديفيد وولكر مسموماً عام1830م»
هذه القصة.. بذاتها.. نسجت خيوطها قوافل تجار الرقيق التي تحولت الآن إلى طائرات، ومسمى الرق تحول لكلمة رقيقة شديدة النعومة «توفير حياة أفضل».. وكل صورها مأساة طبق الأصل من مأساة فليكس.. بلا هوية ولا أسماء ولا وطن ولا أصل ولا جذور ولا انتماء.. فكل الأحشاء الغربية الضخمة ستبتلع معتقدات وبراءة ضحاياها وتظهر الصورة المخزونة فيها.. هي الضياع الكبير.