في الحلقة السابقة أنه وفي أوائل الأربعينيات أو أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، بُعيد سنة التّساب فاجأ المخاض (فاطنة)، وهي تُعد مُلاح السّبروق، وبسرعةٍ نادت نساء الحِلّة فأتوا بالدّاية التي لم تلبث قليلاً إلاّ واستقبلت المولود المرتقب ببلدة (مورة) وهناك، في شمال السودان، بين أشجار النخيل والنيل والسّواقي نشأ وترعرع (إسماعين) ولد (فاطنة)، بين عددٍ من الإخوة، وكغيره من أنداده في ذلك الوقت التحق في سنّ مبكّرةٍ بالخلوة. خطيب في مسجد عقب صلاة الجمعة في أحد مساجد أمدرمان وقف (إسماعين) بعد تسليم الإمام، وتقدّم صفوف المصلين ليخطب فيهم ويحرّضهم ضدّ نظام عبود، فخرجوا يهتفون ضدّه، نادى رجلٌ (إسماعين) وسأله عن اسمه وسكنه، فقرّرت جماعة الإخوان أن يبتعد (إسماعين) عن الخرطوم بعد موجة الاعتقالات التي اجتاحتهم، فهاجر إلى المملكة العربية السعودية قبل أن يكمل دراسته الجامعية وعمل بجدّة معلّماً. أخ مسلم في سنة 1965م حضر ثلاثةٌ من الإخوان المسلمين هم (يس عمر الإمام، … و…..) وذلك لحضور المؤتمر الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة واتصلوا بـ (إسماعين) ليحضر معهم المؤتمر، فتوّجهوا إلى مكّة المكرمة ليكون في استقبالهم ضمن وفود المؤتمر الدكتور سعيد رمضان، صهر مؤسس الجماعة الأستاذ حسن البنا وسكرتيره الشخصي، سلّم على مرافقي (إسماعين) سلام معرفةٍ وشوق، ومدّ يده لـ (إسماعين) مسلّماً. جلس فطاحلة الإخوان يتحدّثون بينما اكتفى الشاب العشريني (إسماعين) بالاستماع، فالتفت إليه الدكتور سعيد رمضان يسأله ليعرّفه بنفسه، فأجاب بأنه (إسماعيل طه، معلّم في مدرسة بجدّة)، لم يكُن لديه أكثر من ذلك عن نفسه، لكنه أراد أن يعرف الدكتور سعيد رمضان أنه يعرفه فأخبره بأنه متابع لإصدارات مجلة (المسلمون)، ويحفظ بعض افتتاحيات مقالاته، وذكر له عنوان مقالةٍ له (ماذا لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟)، أصيب الدكتور سعيد رمضان بالدهشة وترك جلساءه ليلتفت ويولي (إسماعين) كل اهتمامه ليتعرف إليه عن قرب، ويعرف ماذا يفعل وماذا يقدّم، وطلب منه أن يحضر إليه في الفندق قبل سفره ويحضر معه بعض كتاباته. علاقته بسعيد رمضان ذهب (إسماعين) وهو يحمل مقالين في يده لمقابلة الدكتور سعيد رمضان في فندق قصر الكندرة، ووجد معه أعيان البلد وكبراءها، فجلس على استحياء بعيداً حتى فرغ الدكتور من ضيوفه ودعاه لشراب بعض الشاي، وتجاذبا أطراف الحديث وأخذ منه المقالين وودعه على أمل اللقاء مرةً أخرى. بعد أشهرٍ من لقاء (إسماعين) بالدكتور سعيد رمضان، ذهب – برفقة بعض السودانيين – إلى مدينةٍ أخرى في المملكة العربية السعودية لتأدية واجب العزاء، فتوقف وفد المُعزّين في استراحةٍ للتزوّد بالوقود واحتساء بعض القهوة، فهرع (إسماعين) كعادته لأرفف المجلات ليروي عطشه وشغفه للقراءة التي طالما أدمنها، فوجد مجلّته المحبّبة (المسلمون) التي يصدرها الدكتور سعيد رمضان من سويسرا، وفتحها متصفّحاً فوجد عنوان مقالاً بعنوان (سلمان الفارسي، ملاّحٌ طوى شراعه عند شاطئ النّور) مذيّلةً بجملةٍ أربكته وأدخلته في حالٍ مختلف (بقلم: إسماعيل طه)، ارتفع حاجباه دهشةً واتّسعَ بؤبؤ عينيه من التحديق، وجم (إسماعين) وأطبق على غلاف المجلّة بسرعة ولم يجرؤ على فتحها مرةً أخرى، وظلّ طيلة الطريق محتضناً المجلة ولم يُرِها لرفاق الرحلة، فقد كان في حالة ذهولٍ ممزوجٍ بفرح، ولم يخبر أحداً عنها حتى عاد إلى جدة. المدير عايزك اعتاد (إسماعين) أثناء تدريسه أن يتلو بعض الأشعار والمقولات والطرائف الأدبية والتاريخية على مسامع تلاميذه، فقد كان محبّاً للقراءة في المجالات المختلفة وأراد أن يغرس بذرة حب الثقافة في التلاميذ. في يومٍ دراسيّ ككل أيام المدرسة أتى عامل المدرسة – على غير العادة – راكضاً نحو حجرة الفصل، حيث يدرس (إسماعين) حصّته اليومية، فطرق الباب بسرعة، وقال لاهثاً بلهجةٍ خليجية: (المدير يبغاك)، استغرب (إسماعين) فاستأذن من فوره ذاهباً لمكتب المدير، فوجد سماعة الهاتف الوحيد في المدرسة – آن ذاك – مفتوحة، فأشار إليه المدير ليلتقطها ويستقبل مكالمته، ففعل، أتاه صوتٌ يعرفه جيّداً، وأخبره بأنه في جدّة ويريده أن يعمل معه محرراً في مجلة (المسلمون) في سويسرا، فأكمل (إسماعين) إجراءات سفره خلال ثلاثة أيام فقط، وسافر بصحبة الدكتور سعيد رمضان إلى سويسرا، وهكذا وجد (إسماعين) التربال نفسه في جنيف في مقرّ المركز الإسلامي الذي كان قبلة العالم الإسلامي الأوروبي، ويكون أصغر محرّرٍ مرّ على المجلة، ويبدأ مسيرته إعلامياً محترفاً تحت اسم (الأستاذ اسماعيل طه).
اليوم التالي