مع أن الساعة لم تكن قد تجاوزت الثامنة صباحا، إلا أن زحمة السير الخانقة أمام الموقف، جعلت (صلاح) يزفر ضيقا وهو ينظر لساعته بين الفينة والأخرى، بينما يتقدم بسيارته ببطء وعيناه تمسح المكان بحثا عن مكان مناسب ليركن فيه .. عندما نجح في ذلك أخيرا احكم اغلاق الابواب وأسرع مع جموع الداخلين نحو أقرب البوابات اليه، فقد كان الميناء البري مزدحما كعادته في نهاية الأسبوع .. وقف لبرهة يتفحص وجوه رواد المكان من طالبي السفر والمستقبلين، حتى لمح من بعيد (مهند) شقيق (أشواق) الصغير مع والدته وبجوارهم حقيبتي سفر .. تقدم ناحيتهم مبتسما وهو يرفع يده بالتحية وقد كست وجهه ابتسامة ارتياح، فقد كان يخشى أن لا يتمكن من اللحاق بهم خاصة وانه لم يكن يعلم بمواعيد البص بالتحديد، بل حتى انه لم يكن ضمن الخطة أن يحضر لوداع (أشواق) وأسرتها في المحطة، عندما تم الترتيب لسفرة قصيرة لا تتجاوز الاسبوع، لبلدة والدتها بنية حضور زفاف احدى قريباتها، ولكنه استيقظ مبكرا لتأرقه طول الليل بفكرة أنه لن يرى محبوبته لمدة أسبوع كامل، وهو الذي كان يحرص على أن لا تغيب عن عينيه خلال ساعات اليوم العملي خاصة وقد جمعهم مكتب واحد، لذلك وبدافع من حنين قلبه الرهيف قرر أن يسرع للميناء ليكون في وداعها .. قبل أن يصل لمكان وقوف نسيبته المستقبلية وشقيق مخطوبته الصغير، توقف فجأة وقد تغير وجهه بشدة وبانت عليه علامات الغضب، وذلك عندما وقعت عينيه على (اشواق) قادمة من ناحية شباك التذاكر، فقد كانت ترتدي عباءة ضيقة تلتصق بثنيات جسدها، وطرحة صغيرة وضعتها على اطراف شعرها المجموع في شكل (كعكة) والقت طرفيها خلف كتفيها .. تراخت خطواته وسار بخطوات ثقيلة حتى وصل لمكان وقوفهم لتستقبله (أشواق) في ارتباك .. حياهم في برود ثم صمت .. ساد بينهم الصمت المتوتر رغم الضجيج والحركة من حولهم .. رفع (صلاح) وجهه ليتفحص ملابس (أشواق)، فحاولت أن تنزل الطرحة لتغطي بها على ضيق العباءة فانكشف جيدها الأسمر الطويل ..
كان موظفي المؤسسة يطلقون على القسم الذي يديره (صلاح) بيت (العزّابة)، وذلك لأن جميع العاملين فيه كانوا من الجنس الخشن، بالاضافة للجوطة وبشتنة وخشونة أشكال وافعال موظفيه، ولكن كان ذلك قبل أن يتم تعين (أشواق) وتنضم إليهم، فما أن هلت بطلعتها البهية على جموع (العزّابة)، حتى تغيرت أحوالهم من حال إلى حال .. القمصان صارت تكوى بعناية ولا يجرؤ أحدهم على لبس نفس البنطلون يومين متتالين، ناهيك عن ما كان يحدث من بعضهم عندما يعيدون لبس نفس اللبسة لمدة أسبوع كامل، بل صار من الطبيعي شم الطيوب من جنبات القسم الباريسية منها والقدر ظروفك .. تسابق جميع من في القسم على نيل مودتها، ولكنها وبعين (نجيضة) اختارت الزعيم رئيس القسم، وهكذا قبل أن تستلم مرتب شهرها الرابع كان (صلاح) قد حجزها بوضع الدبلة في اليد، على وعد بأن يعيشوا في تبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات عن قريب .. الشيء الوحيد الذي كان ينقص على (صلاح) عيشته هو طريقة (اشواق) في اللبس، فقد كانت تميل للإمتلاء مع قامة عالية وقوام متناسق، وكانت ملابسها الاسبور كثيرا ما تجري التعليقات الخارجة على ألسنة العزّابة تغزلا ووجدا، ولكن كان ذلك من وراء ظهرها وقبل أن تعلن خطوبتها لـ (صلاح) .. رغم ان التهذيب والاحترام الذي شاب علاقة (أشواق) بزملائها في حضورها وغيابها، إلا ان أول طلب طلبه منها (صلاح) بعد الخطوبة هو الالتزام بلبس التوب …
قال لي عشان جسمي ما جسم موضة لازم ألبس التوب للشغل !
هكذا أخبرت امها عند عودتها للبيت فثارت حفيظة الاخيرة من أن يكون الطلب بادرة تسلط وفرض رأي من الخطيب الجديد، بل واتهمته بالرجعية والتخلف واحتجت بـ:
هو نحنا لسه شفنا ليهو شنو عشان يتشرّط علينا .. هسي القاعدة تلبس توب منو في الزمن دا ؟ السمان والضعاف هديلك حايمات بي طرحن !! ولكن عندما أصر (صلاح) على تنفيذ طلبه، جابهته نسيبته المستقبلية بحجة (كلّف يا سيدي) وطالبته بشراء التياب لـ (أشواق)، قبل أن يلزمها بلبسها .. حاججته:
يا ولدي شوف التوب الواحد بقى بي كم ؟ .. والشغل بستهلك التياب .. أسألني منو أنا .. أقلو تجيب ليها خمسة ستة تياب بيض في الأول !! فاستجاب لها واحضر الثياب البيض والملونة قطعا للحجة، وهكذا صارت (أشواق) تحرص على لبس الثوب للعمل يوميا، وحتى في خرجاتهم المسائية للفسحة كانت تقشر بثيابها الملونة الجديدة، ولكن يبدو أن كل ذلك كان أمامه ومن أجل عينيه فقط، فها هو يضبطها بـ (الثابتة) في الميناء البري عندما ظنت أن لا تلاقيا !!
مخرج: ودعهم (صلاح) وأسرع مبتعدا، فالتفتت (أشواق) لوالدتها وقالت بقلق:
سجمنا يا ماما ! صلاح لقاني ما لابسه التوب .. هسي حا أودي وشي منو وين ؟!!
فأجابتها: يا بت ما تشتغلي بيهو دا متخلف ساي !!