من كان يتصور أن الشاب النحيل والمتفوق في دراسته، ذا الأعوام الستة عشر، الذي يرتدي قبعةً بيضاءَ، وقميصاً مفتوحَ الصدر، وهو يبتسم بعد انتهائه للتو من الامتحانات المؤهلة لدخوله الجامعة، مودِّعاً أصدقاء الدراسة؛ من كان يتصور أنه سيتحول في غضون سنوات لأحد أخطر المطلوبين للسلطات البريطانية. هكذا تحدث زملائه في صف تخرج 2006، بمدرسة (نينثورب)، وهم يتذكرون خباص المحب لكرة القدم وعاشق (مانشتر يونايتد)، الذي يتحدث الآن عن شرور المجتمع الغربي، بعد أن تحوَّل حُبُّه للحياة والمُتع في تلك السن المبكرة لحالة من الانطواء على الذات في سنواته الأخيرة. يقول زميله جوش كارول، في حديثه لـ(الميرور) البريطانية: “لا أستطيع تخيُّل ما حدث له”.
مثال حي
مثَّل التحول الكبير الذي حدث في حياة محمد فخر الدين الخباص، مثالاً حياً لما حدث للكثير من الشباب البريطانيين، الذين انضموا لتنظيم الدولة، وكفروا بالعيش في المجتمع الغربي، بل وبات الشاب المولود في التاسع من أكتوبر من العام 1990 بوسط ميدليسبورغ ببريطانيا، مُتَّهماً بلعب دور رئيسي في تجنيد نحو 16 شاباً بريطانياً، وإقناعهم بالذهاب إلى سوريا؛ للانضمام لـ(داعش).
نشأ خباص في الجزء الشمالي الشرقي من بريطانيا مع أخوَيْه الكبيرين، وتكشف صفحة حسابه بالفيسبوك التي يبدو أنه أُوقفت حالياً، أنّه يؤمن بتطبيق (الشريعة)، كما إنّه قال لأصدقائه خلال إحدى مشاركاته على “فيسبوك” إنه ينبغي على كل مسلم أن لا يستمع إلى الموسيقى وأن لا يدخن، مبرزاً أنّ جميع النساء يجب أن يرتدين الحجاب على ألا ينشروا صوراً لأنفسهم على الإنترنت.
ونشأ الشاب الفلسطيني البريطاني في ميدليسبورغ، وذهب إلى الخرطوم للدراسة بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، حيث يُعتقد بأنه أصبح متطرفاً هناك، وأصبح رئيس جمعية (الحضارة الإسلامية) بالجامعة، وبدأ بتجنيد آخرين للتنظيم، بعضهم بريطانيون وأقنعهم بالانضمام إلى (داعش) بدلاً عن بدء حياتهم المهنية في بريطانيا أو الغرب، ويعتقد بأن الخباص الذي يرجح وجوده حالياً في الرقة بسوريا استهدف نحو 16 شخصاً على الأقل حاولوا الذهاب إلى سورية عن طريق تركيا؛ ولكن تراجع البعض بعد القبض على اثنين بواسطة الشرطة، كان معظمهم طلاباً بريطانيين من أصل سوداني اتجهوا لدراسة الطب في الخرطوم.
ويوصف الخباص بأنه كان شاباً مفعماً بالحيوية والنشاط؛ إلا أنّه أصبح منطوياً في العشرينيات من عمره، وأصبحت صفحته على (فيسبوك) موقعاً لأخبار أصدقائه بكيفية اتباع الشريعة وأن لا يعيشون حياة خاطئة.
وكتب في إحدى المشاركات: “نصيحة إلى كل أخت تنشر صورها على (فيسبوك) حتى ولو كانت مرتدية الحجاب، إنها نصيحة من شخص يريد لك الأفضل، أنصحك بتغير صورتك إلى شيء يرضى الله”، كما حث أصدقاءه في آخر مشاركة له بتاريخ الرابع والعشرين من أغسطس 2014م، على حذف النساء من قائمة الأصدقاء على (فيسبوك) حتى لا يفتنوا بهم، وكتب قائلاً: “حذف الأخوات أو تعليقاتهم من (فيسبوك) يكون أمراً صعباً؛ ولكن إذا كان هذا ما يرضى الله فيجب أن نفعله ويكون من أولوياتنا”.
ونشر صورة يخت مبحر في الماء عند الغروب على حائطه بـ(الفيسبوك)، ووضع على مكان الصورة الشخصية صورة شلال وقوس قزح يعتقد بأنها ترمز إلى الجنة، فضلاً عن مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من أولئك الذين يستسلمون لرغباتهم، والتي تمتد من التدخين والاستماع للموسيقى حتى ترك الصلاة، والدخول في علاقات غير شرعية.
أساليب الاستقطاب
كلَّما تم التحدث عن استقطاب داعش لطلاب مأمون حميدة، جرت الإشارة لجمعية (الحضارة الإسلامية) ورئيسها ذي الأصول الفلسطينية، وتُحمَّلُ في هذا الصدد إدارة الجامعة مسؤولية ما حدث لغضِّها الطَّرْف عن كل ذلك. وتقول أسرة أحد الطلاب الذين انضموا لداعش في مارس الماضي، إن مأمون حميدة وجامعته مسؤولون عن مصير أولادهم. وتضيف قريبة أحد المنضمين في مارس لـ(السوداني) – بعد أن فضلت حجب اسمها – إن الجامعة غضت الطرف عن النشاطات التي كانت تقوم بها جمعية الحضارة الإسلامية، رغم أنهم اشتكوا لها منهم، وتزيد أن إدارة الجامعة لم تُحرِّك ساكناً في مراقبة أنشطة الجمعية ومصادر تمويلها وطريقة إدارتها، وتضيف أنهم كانوا يعرفون نشاطات محمد فخري -الاسم الذي عرف به في الجامعة – وتشير إلى أنه كان يدخل ويخرج من الجامعة بكل سهولة كأيِّ طالب جامعي، وعُرِفَ في تلك الأثناء بشخصيَّته اللامعة والجاذبة، وكان بمثابة الأب الروحي لمن حوله. وتشير ذات المصادر إلى أن إدارة الجامعة تتحمل مسؤولية ما حدث، خاصة بعد أن اشتكى ذوو بعض الطلاب إلى مالك الجامعة من تغير سلوك أبنائهم في اتجاه التشدد الديني وهو أمر قُوبل بالتجاهل.
وتزيد ذات المصادر، أن فخري كان يقوم بعمل منظم، يبدأ بجمع المعلومات عن الطلبة الجدد (البرالمة)، وتصنيفهم بحسب توجهاتهم العامة، ومعرفتهم باللغة العربية، وبالطبع ما إذا كانوا مزدوجي الجنسية، وبهذه الطريقة يعمل على اصطياد فريسته، والعمل عليها حتى يصل لمبتغاه.
وتختم حديثها بالقول: “نظمت الجمعية محاضرات مسموعة ومرئية داخل قاعات الجامعة، وشارك فيها متحدثون من خارج الجامعة، كانت تهيئةً وإعداداً للمراحل النهائية، وكل ذلك تم على مسمع ومرأى من إدارة الجامعة”.
ويمضي طالب تخرَّج من الجامعة: “درج محمد فخري على تنظيم حلقات لتفسير القرآن الكريم، يركِّز من خلالها على آيات الجهاد، حتى أقنع المستهدفين بوجوب الهجرة إلى أرض الخلافة الإسلامية”.
وليس بعيداً عما سبق، تقول خريجة من جامعة العلوم الطبية: “إن الخباص كان يستغلُّ دوره في الجمعية في نشر الأفكار المتطرفة بمساعدة بعض الدعاة من خارج الجامعة”، وأضافت لـ(السوداني) – بعد أن فضلت بدورها حجب اسمها: “إن فخري كانوا يدعو للكفر بالمجتمع الغربي والذهاب للجهاد دون إذن من حاكم أو والد، معتبراً أن الجهاد هو أفضل العبادات وأقصرها طريقاً إلى الجنة”. وتضيف أيضاً: “إن الخباص استخدم كاريزماه في استقطاب الطلاب بالتركيز على من نشأوا في الغرب”.
ويضيف طالب آخر تحدث في وقت سابق لهيئة الإذاعة البريطانية: “تتم عملية الاستقطاب بعد إقناع الهدف بالجهاد، ليتم اقتياده خارج الجامعة حيث تنظم الجمعية حلقات خاصة تعرض فيها مشاهد مؤثرة لقصف النظام السوري للمدنيين”. ويزيد المصدر نفسه: “إن الخباص خدع الطلاب واستغلَّ نواياهم الطيبة، وأخبرهم بأنهم سيخدمون كأطباء في الحدود التركية السرية تحت اسم الدولة الإسلامية”.
في المقابل يقول عميد شؤون الطلاب، د.أحمد بابكر، إنهم اتخذوا حزمةً من التدابير تجاه الجمعية بعد انحراف خطها، ويقول: “لقد قمنا بتحجيم نشاط الجمعية ومنعناها من إدخال الدعاة المتشددين للجامعة، وقمنا خلال عامين بتجفيف نشاطها ويمكن القول إنه لم يعد لها وجود”. ويزيد أن الخباص نفسه كان طالباً هادئاً ومعتدلاً يدعو للتدين بشكل معتدل، ولكن حدث له تحول فكري مفاجئ، بعد أن تم استقطابه واستغلاله في تجنيد الآخرين.
ويكشف أحد زملاء الخباص بالجامعة، عن أن الأخير قطع دراسته وقضى بعض الوقت في سوريا، قبل أن يعود ويستأنف دراسته وكأن شيئاً لم يكن.
ويعود بابكر في حديثه لـ(السوداني)، ليقول إن الخباص التحق بالجامعة منذ 2008 حتى 2013، ولعب دوراً محورياً في تسفير الطلاب إلى سورية عبر تركيا، فكان يشجعهم على أن يصبحوا أطباء على الحدود التركية السورية تحت اسم (داعش).
ووفقاً لشهادات الطلاب العائدين الذين جلست معهم السلطات الأمنية السودانية والبريطانية، فإن الطلاب لم يكونوا على علم بأي اتجاه سياسي في شأن الحرب السورية، حيث استغل فخري حسن نواياهم. وبالعودة لجمعية الحضارة الإسلامية، يقول بابكر، إن الجمعية تأسست في الفترة من 2005-2006، وكانت جمعية دعوية خيرية تؤمن بالفكر الإسلامي المعتدل، ولكن حدث بها تحول مفاجئ، بعد أن تولى أمرها محمد فخري في العام 2011، فأصبحت أكثر تشدداً. ويضيف بابكر أن الخباص كان المسؤول عن استقطاب الطلاب بالجامعة، وإقناع المترددين منهم، فضلاً عن توفير منصرفات الرحلة ورسم تفاصيل التحرك ومساره، ويقول أيضاً: “تم تسفير الفوج الأول في مارس الماضي، وفي تفويجه للثاني في يونيو الماضي لجأ لمزيد من التدابير الاحترازية عبر السفر خلال ثلاثة أيام متوالية وفي رحلات مختلفة”. ويشير بابكر إلى أن الخباص بعد تخرجه من الجامعة واصل إقامته بالسودان حتى حصل على تأهيله كطبيب ممارس من المجلس الطبي في السودان في العام 2014. ويشدد بابكر على أن الخباص بعد تخرجه من الجامعة لم يكن له وجود فعلي، إلا عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
في غضون ذلك، وأشار طالب سابق بنفس الجامعة إلى أن الطلاب المتسللين إلى هناك أصبحوا جزءاً من المشكلة، وأضاف: “من خلال ما سمعت، هناك الكثير من أنصار تنظيم الدولة الذين لم يسافروا بعد ويعتزمون العودة إلى بريطانيا والعمل بالهيئة الوطنية للخدمات الصحية في بريطانيا تحت أي ظرف”.
محاولات حصار
بدأت الخارجية البريطانية التباحث مع جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، وجامعات أخرى، للحدِّ من ظاهرة انضمام وهجرة الطلاب حاملي الجنسية البريطانية، لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لا سيما بعد تحذيرات من أن بعض حاملي الجنسية المنضمين لداعش لم يغادروا إلى سوريا، وقرَّروا العودة للعمل في المملكة المتحدة.
وفي السياق، كشف عميد شؤون الطلاب بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، د.أحمد بابكر، عن خطوات تنسيقية تجري الآن بينهم والسفارة البريطانية بالخرطوم، للتفاكر حول ما يمكن اتخاذه من إجراءات وترتيبات للحد من المشكلة، وأضاف في تصريح لـ(السوداني): “بدأنا الترتيب لعقد سمنارات للتفاكر حول الأمر، إضافة لاتجاه بعض خريجي الجامعة بالمملكة المتحدة لتنوير الرأي البريطاني بحقيقة الأمر”، وأضاف: “المسألة لم تعد بجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا فقط، هناك جامعات أخرى حتى في بريطانيا يخرج منها العشرات للانضمام لتنظيم الدولة”، وقال: “البريطانيون نشطون في هذا الأمر، ويشعرون بأن الخطر يحدق بهم، لقد حققوا مع ثلاثة من الطلاب العائدين، وخيَّروهم بين الذهاب لبريطانيا أو البقاء في السودان، واختاروا البقاء ومواصلة دراستهم”.
وكان مالك جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، مأمون حميدة، قد قال في وقتٍ سابق، في حديث لـ(السوداني)، إن الجامعة أعدَّت دراسة كاملة لرصد الظاهرة منذ أن بدأت، ويشير إلى أنهم حذروا الأسر من التغييرات الفكرية التي حدثت لأبنائهم، والتي كان بعضهم على علم بها، ولكنهم لم يستطيعوا فعل شيء.
أشعرُ بالخجل
في بريطانيا سعت وسائل الإعلام لمحاصرة الطبيب المتقاعد فخر الدين الديب الخباص والد محمد بالاسئلة، الا إنه قال بعد تردد، إنّه “يشعر بالخجل من ابنه، وإنه سيساعد الشرطة”. وأضاف الطبيب وهو يتحدث من منزل الأسرة بمديلسبرة لصحيفة (التلغراف) البريطانية: “موقفنا في الأسرة واضح، هو الشعور بالخجل والعار نتيجة ما فعله ابننا، ولكن سيكون من غير المناسب أن أتحدث عن تبرير لما فعله، فأنا لا أعرف الدوافع الحقيقية”. وزاد الطبيب المتقاعد بعد أن وصل العقد السادس من عمره: “نحن نؤمن بالسلام.. ونعمل بجد ومحبة، وأعتقد أن ابني لديه ذات وجهة النظر التي نتمتع بها عن السلام والحب والحياة والموت”. وتابع بعد أن قال إنهم سيعملون مع السلطات البريطانية حول أمر ابنهم: “مارست مهنتي لأعوام عدة، وفعلت الكثير من أجل المجتمع، وساعدت الكثيرين من الناس في المنطقة، وهم ممتنون للعائلة على مساعدتنا لهم، لا أريد التعليق أكثر من ذلك”.
في ذات الوقت، تؤكد البريطانية هيلين واردل، (39 عاماً) والتي تسكن في المنزل المجاور لأسرة الخباص الحديث السابق وتقول: “إنها أسرة محبوبة وفاعلة، لقد شاركت الحي في إعداد الطعام في الحفل الذي أقمناه بمناسبة الزواج الملكي الأخير”، وتضيف هيلين: “أراهن الآن على أن هذه العائلة قد دُمِّرت”.