طفرة تاريخية (2)

كم كنت جاحدا؛ فحكومة الرئيس السوداني المشير جعفر نميري منحتني فرصة ركوب طائرة على حسابها من الخرطوم إلى الفاشر عاصمة إقليم دارفور في غرب السودان، رغم أنني كنت من معارضيها، ودخلت السجن بسبب ذلك ونلت لقب «مناضل» لبعض الوقت، وكانت تلك أكبر طفرة في حياتي، أنا الذي كنت أظن أن تذوق الكولا والآيس كريم وركوب التاكسي واستخدام النظارة الطبية جعل مني إنسانا عصريا متحضرا.
ولأن السودان بلد حار وجاف ومترامي الأطراف، فقد كان من عادة المسافرين بالقطار أو الشاحنات (كان بعض تلك الشاحنات يسمى باصات مجازا، بعد تزويدها بمقاعد من صنع محلي تسبب الانزلاق الغضروفي والبواسير)، المهم كان من عادة المسافرين حمل «زاد» أي طعام وأحيانا ماء، ولأن الفاشر بعيدة جدا عن الخرطوم، فقد جهزت لي أمي دجاجتين محمرتين كي أتناولهما خلال الرحلة، ولم تكن هي أو أنا نعرف أن الرحلة تستغرق ساعتين على أبعد تقدير.
وما إن أقلعت الطائرة التي كان واضحا أنها تعاني من تصلب المفاصل والغازات، حتى مددت يدي وأخرجت دجاجة محمرة، وأنا أدعو الله أن يكون جاري عفيفا وذا كبرياء فلا يلبي دعوتي بمشاركتي في أكل زادي للسفر، وجريا وراء العادة قلت له: تفضل، ولكنه نظر إليّ بازدراء ودهشة، من دون أن يكلف نفسه حتى مشقة النطق بكلمة الشكر، فانفجرت في وجهه: أمرك عجيب أتريد مني أن «أعزم» جميع الركاب؟ ولكن ذلك الشخص البارد السخيف قال لي: الله يلعن أبو الزمن الذي جعل أمثالك يركبون الطائرة، وألقمته حجرا، إذ قلت له ان الزمن الذي جعلني اركب الطائرة هو «الحكومة»، ولكنه ابتلع الحجر بسهولة وانفجر في وجهي قائلا: لعنة الله عليك وعلى الحكومة، فقلت له لتخويفه على أمل أن ينكتم: اسكت يا شيوعي. ولكنه تجاهل هذا الاتهام القاسي واستطرد قائلا: تحمل دجاجتين لرحلة تستغرق ساعتين؟ وماذا يكون زادك إذا سافرت إلى لندن؟ خروف؟ عجل؟
منعني من مواصلة الردح نظرات الاستهجان في عيون بقية الركاب، ولم أعرف من المقصود بتلك النظرات، ولكن من باب الاحتياط أعدت الدجاجة إلى قواعدها متحسرا، ومؤجلا الانقضاض عليها إلى نهاية الرحلة. وأغمضت عيني لأتخيل كيف ستستقبلني الجماهير في مدينة الفاشر، ولكن طنينا عاليا قطع عليّ أحلامي، وكان واضحا ان سائق الطائرة كان يريد ان يقول لنا شيئا وأن المايكروفون انحشر في بلعومه فتحول صوته إلى ذلك الطنين المزعج، وأكد شكوكي أن الطائرة (إذا جازت التسمية) بدأت تتراقص بطريقة هوليوودية بعد أن ارتطمت بسحابة هوجاء.
والسحب عندنا في السودان، وفي شهر يوليو بالتحديد تتألف من أجسام صلبة نتيجة اختلاط ذرات الماء بالتراب، وحسبت أن سائق ذلك «البتاع» الذي كنا نركبه مات نتيجة الاصطدام بالسحابة مما افقد البتاع توازنه، وجلست أتمتم «ولا تدري نفس بأي أرض تموت.. اللهم أسألك العفو والعافية»، ثم استدركت وطلبت العفو فقط على أساس أن العافية لن تنفعني في شيء إذا سقطت الطائرة الملعونة، ثم لعنت الأخوان رايت وعباس بن فرناس.. ثم طلبت لهم المغفرة.. ثم قرأت الفاتحة على روحي.. ثم ظهر مطار الفاشر من نافذة الطائرة، وقبل ان تلامس عجلاتها الأرض بدأت «أشيل هم» رحلة العودة.
ومكثت في الفاشر نحو أسبوعين وكان ذلك في فصل الخريف الذي يتحول فيه غرب السودان بأكمله إلى جنات من أنهار وأزهار.. وكعادة الموظفين في أرياف السودان حلفت جالية الموظفين في الفاشر بالطلاق الجماعي ألا أقيم في بيت الضيافة الرسمي فظللت انتقل من بيت إلى بيت ومن وليمة إلى وليمة، ولكن جمال المدينة وكرم أهلها لم ينسني التفكير في رحلة العودة على متن تلك الطائرة المهلهلة.. لم يكن واردا ان أسافر برا لأن السيول قطعت الطرق، وسألت تجار المدينة إن كانت لأحدهم قافلة من الجمال متجهة صوب الخرطوم، فقالوا لي ان آخر قافلة غادرت المدينة قبل مائة سنة.
آه حلمت بالطفرة ووقعت في حفرة

jafabbas19@gmail.com

Exit mobile version