حسناً، نعرف جيدا أن لا مسافة فاصلة بين السلطة وإعلامها في مصر، لا الإعلام يجتهد، ولا السلطة تمنح المساحات، لذا عندما يتحدث محمد حسنين هيكل، أو توفيق عكاشة، أو متعهد تسجيلات الأمن للسياسيين، فإنك لا تستطيع أن تستبعد صدى صوت عبد الفتاح السيسي في الخلفية.
شهدت الأيام القليلة الماضية فصولا مثيرة من لعبة الإشارات والتلميحات والرسائل، أرادت السلطة توجيهها إلى أطراف بعينها، من دون أن تظهر في الصورة، بشكل مباشر، لتنطلق حملة هجوم بارد على السعودية وإدارة الملك سلمان، تبدأ بالتلويح بمحور “سيساوي/ إماراتي” في مواجهة ما اعتبرته العقلية الأمنية المتصهينة في مصر انفتاحاً سعودياً على الإخوان المسلمين، استنادا إلى زيارة خالد مشعل السعودية أخيراً.
هذا ما أفصح عنه صراحة، أو وقاحة، أولتراس إعلام دولة السيسي، مناكفاً باسم الإدارة المصرية الرياض من ناحية أبو ظبي، فيما تطرق إليه “حكيم النظم العسكرية”، محمد حسنين هيكل، بطريقة أكثر نعومة، في حواره مع صحيفة السفير، حيث بدا الناطق بعد صمت طويل، وكأنه يناكف الرياض، أيضاً. ولكن، من جهة طهران، مستدعيا “مدافع آيات الله” من أرشيفه المخزن، ليعبر عن ابتهاجه بما يراه إنجازاً إيرانيا، فيما يخص ملفها النووي، ومكايدته للخليج، بإعلانه الانزعاج من أن هناك من يريد تعطيل التقارب بين مصر وإيران، من دون أن يسمي السعودية صراحة.
لم يظهر هيكل إعلاميا، منذ نهاية مارس/ آذار الماضي، حين قررت الحكومية المصرية منع بث حوار له مع إحدى الفضائيات الخاصة، بعد تسريب مضمونه الذي ينتقد فيه “عاصفة الحزم” في لحظة لم تكن فيها القاهرة تريد ما يغضب الرياض منها، وهي “تتحسس أرزها”، بعد رحيل الملك عبد الله. ولذلك، كان الهجوم عنيفا على هيكل، إلى حد أن المستشار الإعلامي السابق لرئاسة ما بعد الانقلاب اتهمه بأنه يقف دوماً مع إيران، حتى على حساب مصر، وأنه كان دومًا حليفًا فكريًا وإعلاميًا للمنظومة الإيرانية، بل إنه استخدم في كتابه (المقالات اليابانية) مصطلح (الخليج الفارسي)، وليس الخليج العربي.
أما الآن، ومع بداية الإدارة المصرية في ضبط حركتها، والتعرف على اتجاه “رياح الأرز،” فإن أحدا لم يحمل على هيكل، ولم يمارس تعتيماً على حواره مع “الصحيفة اللبنانية” القريبة من حزب الله، بل راحت الصحف المصرية الخاصة تعيد نشر الحوار، نقلا عن مصدره الأصلي، بما يقطع أن إدارة عبد الفتاح السيسي “تهمهم” بشيء ما، غير واضح الحروف، أو اللهجة، صوب الخليج، وخصوصا السعودية.
وليس هذا غريباً على نظام يولي وجهه دوما شطر الأرز، عقيدته هي “الولاء لمن يمنح”. لذا ليس غريباً، أو مفاجئا، أن ينقلب على السعودية، إذا ما لوحت إيران بحفنة أرز، من دون أي خجل أو استشعار للتناقض الذي يصل إلى حد النذالة.
وهل هناك تناقض أكثر من أن يكون القضاء المصري منشغلا بتجهيز أحكام مغلظة، تصل إلى الإعدام، ضد الرئيس محمد مرسي، بتهمة التخابر مع قطر، وفي الوقت نفسه، تعلن الخارجية المصرية توجيه الدعوة إلى الدوحة، للمشاركة في حفل افتتاح توسعة قناة السويس؟
أفهم أنك إذا كنت تتهم طرفاً بأنه يهدد أمنك القومي، ويتجسس عليك، وتطلق وسائل إعلامك لتعرض وثائق التخابر، المصنوعة برداءة، فإن المنطق يقول إنه من الخطر أن تدعو هذا الطرف “الذي تعتبره عدوا” لمشاركتك أفراحك بمشروعاتك القومية، ذات الأهمية الاستراتيجية، كما تدّعي.
وأفهم أيضا أنك إذا كنت قد استعدت إحساسك بالعزة والكرامة الوطنية فجأة، وقررت أن ترفع رأسك في وجه مانحيك الأرز، فإن أبسط اشتراطات الكرامة تفرض عليك أن تخرج على الناس ببيان واضح وشفاف تقول فيه للناس إذا كنت قد حصلت على القناطير المقنطرة، والمليارات الممليرة، منهم أم لا؟
وإذا كنت قد حصلت، وجاء الوقت لكي تعلن تمردك، وتمد يدك إلى الجهة الأخرى، فليس أقل من أن ترد للمانحين أرزهم، وتقول لهم شكرا، لا نريد منكم شيئا، لقد بلغنا سن الفطام. وكما استدعيت هيكل، ليقول ما لم تجرؤ على قوله، تستدعي مقولة عبد الناصر الشهيرة “الذي لا يستطيع إعالة نفسه، لا يمكنه اتخاذ قرار”.
وائل قنديل
العربي الجديد